لقاء آنفى بين السلطان محمد بن يوسف والرئيس فرانكلين د. روزفيلت | ||
العرض الذي قدمه الدكتور عبد الهادي التازي عضو أكاديمية المملكة المغربية في الندوة التي نظمها القسم الثقافي بالقنصلية الأمريكية بالدار البيضاء بمؤسسة الحسن الثاني إحياء للذكرى السبعين لمؤتمر آنفى التاريخي، يوم الثلاثاء 15 يناير 2013 كنا بحاجة ماسة إلى إنعاش الذاكرة باستحضار ذكرى ذلك "اللقاء الاستراتيجي" من علاقات المملكة المغربية بالولايات المتحدة الأمريكية في شخص السلطان سيدي محمد بن يوسف (محمد الخامس) عاهل المملكة المغربية والرئيس فرانكلين دولانو روزفيلت Franklin D. Roosevelt رئيس الولايات المتحدة الأمريكية اللذين اجتمعا معا في آنفى ذلك "اليوم الكبير" في التاريخ الحديث للمغرب الأقصى إن لم نقل في التأريخ لنهاية الاستعمار في المغرب الكبير وفي القارة الإفريقية والقارات الأخرى!! لم أنس هذا التاريخ 22 يناير 1943 الذي أتى في أعقاب قنبلة الدار البيضاء من لدن الحلفاء يوم 7 نونبر 1942 (الموافق 29 شوال 1361) وقتها كنت طالبا في جامعة القرويين بفاس وكنت إلى جانب هذا أسيّر بعض الخلايا الوطنية التابعة للحزب الوطني الذي أسس بعد حل كتلة العمل الوطني التي أذكر أن رقم انخراطي فيها يوم أسست في مايه عام 1934 كان 561 بعد رقم والدي 560! وكانت بعض المعلومات تتسرب إلينا عن لقاء آنفى... وكانت إلى جانب ما تحمله من تفاؤلات، كانت تحمل معها توقعات المغاربة للقمع الذي ينتظرهم من جراء الغضب البالغ لرجال"الإقامة العامة" من تحمّس المواطنين لذلك "اللقاء" الذي كان خرقا سافرا في نظر المقيم العام نوكيس للبند الخامس من معاهدة الحماية الذي يمنع العاهل المغربي من الاتصال بالخارج! يهمنا هنا قبل أن نرجع إلى لقاء آنفى لنقول كلمة قصيرة عن السلطان الذي كنا نسميه محمد بن يوسف، والذي عرفنا فيه أنه كان رجلا لا يضيع الفرصة كلما سنحت له، ولذلك فإنه لم يتردد وقد وجهت إليه الدعوة من الرئيس الأمريكي في أن يفصح عن الرغبة التي كانت تخامره، أمام الرئيس، وهنا سأستعين بالشهادة الحية التي وردت حول الموضوع، كما أستعين بما قاله رجال الحركة الوطنية كذلك. وأذكر منذ البداية أنني استغربت من اختصار الأستاذ علال الفاسي في تأليفه "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، استغربت من اختصاره للكلام عن هذا "الحدث الكبير" وعدم ذكره لأسماء الذين حضروه ، ولو أنه أي السيد علال الفاسي، قال بأنه ≫من العبث أن ينكر تأثير الحرب وإعلان وثيقة المحيط الأطلسي ونزول الحلفاء بالمغرب. الأمر الذي جعلني أسأله عن السبب في اختصار الحديث عن ذلك "اللقاء التاريخي"، فصارحني بأن الأمر يتعلق بهفوة من الطابع، وهو الأمر الذي تداركه في تأليفه اللاحق: "المغرب العربي منذ الحرب العالمية الأولى"، الذي أهداه لي بخطه. وكان السيد الذي تناول الحديث بتفصيل عن لقاء آنفى هو الأستاذ محمد حسن الوزاني في الجزء السادس من "مذكراته حياة وجهاد" معتمدا على المؤرخ البريطاني روم لاندو Rom Landau الذي قام بتحليل ذكي لمذكرات نجل الرئيس الأمريكي السيد إليوط روزفيلت... ويهمني جدا قبل أن أستمر في الحديث عن ذلك اللقاء أن أرجع قليلا إلى تاريخ الأمس، فإنني من المؤرخين الذين يؤمنون بأهمية دراسة المراحل السابقة لرصد المراحل اللاحقة!! لا أتحدث عن حرص الملك محمد الثالث (ت 1204=1790) على إبرام أول اتفاقية بحاضرة مدينة مراكش مع جورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 23 يونيه 1786 (25 شعبان 1200) ، تلك الاتفاقية التي كانت متبوعة بأمر ملكي بتاريخ 31 يوليه 1786 (4 شوال 1200) يقتضي إنشاء أسطول مغربي قادر على الوصول – عبر الأطلسي - إلى الولايات المتحدة من أجل تفعيل مقتضيات الاتفاقية المغربية الأمريكية لا أقتصر على تلك الفترة التي يعرفها كل الذين اهتموا بالتاريخ الدولي للمغرب... ولكني أشير كذلك إلى رسالة بعث بها حفيد الملك محمد الثالث: السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام بتاريخ 22 أبريل 1855 ( شعبان 1271)، بعثها إلى الرئيس فرانكلين بييرس Franklin Pierce الذي نعته ملكنا بـ "سلطان أمريكا"! يقول فيها بالحرف: "اعلم أن عمنا أمير المؤمنين مولانا سليمان رحمه الله كان إذا وقع بينه وبين أحد من القناصل بطنجة شيء كان ينوب عنه قنصل المركان، وذلك لما يعلمه من وقوفكم على الحق، ولا تريدون الضرورة لأحد من عباد الله، والمحبة التي كانت بينكم وبين هذه الإيالة السعيدة لا زلنا عليها كما كان الأسلاف، والآن فإنا نعلمكم بحادثة وقعت لنا مع دولة الفرانسيس..." ويشرح العاهل المغربي في الرسالة المذكورة "الحادثة الواقعة" مستنجدا بالرئيس الأمريكي في أن يقوم بواجبه الأخلاقي في حل الخلاف بين المغرب وفرنسا... لكن الأكثر من هذا دلالة على أن المغرب يثق في الولايات المتحدة هو ما حدث أيام السلطان محمد بن عبد الرحمن (محمد الرابع)... لقد شعر هذا الملك بأن بلاد المغرب مستهدفة من قبل بعض الدول الأوروبية : فرنسا التي أصبحت بعد اجتياح الجزائر جارة له، وأخذت تسعى لتوسيع رقعتها على حساب أرض المغرب... إسبانيا التي أخذت تطمع في توسيع المدينتين المحتلتين: سبتة ومليلية...! هذا إلى بريطانيا التي كانت تتطلع إلى ابتزاز المغرب لصالح مستعمرتها: (جبل طارق). الملك محمد الرابع هذا توجه إلى الرئيس الأمريكي إليسيس كرانط Ulyssess Grant ليتمعشر به ويقترح عليه حلفا ثنائيا من شأنه أن يحميه من أطماع الدول الأوروبية، وهذا مضمون التقرير الذي رفعه القنصل الأمريكي بطنجة آنذاك: فيليكس ماثيوس Mathious F.، وكتب عليه القنصل بخطه كلمة (سري)، ووجهه إلى وزير الخارجية السيد هاميلتون فيشHamilton Fish ، وكان التقرير يحمل تاريخ 29 يونيه 1871 بعد اجتماع قمة بمدينة فاس بينه وبين الملك محمد الرابع في قصر دار الدبيبغ. كان محمد الرابع يتمتع بحاسة استباقية نافذة، فقد كان يدرك أن بعض الدول الأوروبية في طريقها إلى اقتسام إفريقيا!!! وهو الأمر الذي حدث بالفعل حيث شاهدنا هذه الدول تقدم عام 1880 على هذا العمل مما سجلته الخارطة الدولية للقارة الافريقية... الآن نعود إلى فترة العاهل المغربي سيدي محمد بن يوسف الذي كان يعرف عن تاريخ بلاده، فلم لا يغتنم الفرصة ليذكر الرئيس الأمريكي روزفلت بالواقع الذي تعيشه بلاده اليوم وقد قدر لها أن تصبح مستعمرة لدولة من قارة أخرى؟! وهذا هو الموضوع الذي تناولته في أربع صفحات مزودة بالصورة في موسوعتي عن (التاريخ الدبلوماسي للمغرب) الذي ترجم إلى الانجليزية بعد هذا نأتي على ما ورد في مذكرات نجل الرئيس الأمريكي وهي شهادة حية رواها عن والده: لقد وصف إيليوت (ELLIOTT) نجل الرئيس الأمريكي المأدبة في كتابه، دون أن يتطرق إلى المحادثة الخاصة التي سبقتها قائلا: "لم تدر خمر قبل تناول العشاء ولا أثناءه، ولم نأكل لحم خنزير لأن ضيفنا الليلة هو السلطان، سليل النبي الذي جاء بالدين الإسلامي الحنيف" "حضر السلطان يرافقه ولده الفتى ولي العهد، يتبعهما الصدر الأعظم ونائب مدير التشريفات، وكانوا يلبسون جلابيب بيضاء فضفاضة، وقد حمل السلطان معه تاجا رفيعا ودمليجين من ذهب، هدية لوالدتي، فتأمل والدي الهدية، ونظر إلي من طرف خفي وهو يقلب بصره في، وكان كلانا يفكر نفس تفكير الآخر، ويتصور والدتي تترأس بعض الحفلات في البيت الأبيض وهي تتحلى بتلك التحف"!! "وابتدأ العشاء، وكان السلطان جالسا عن يمين والدي وتشرشل عن يساره، فقال تشرشل – والانشراح ظاهر على محياه – إن الجنرال دوكول وصل في هذا الزوال وتغذى مع الجنرال جيرو، ثم ذهبا معا إلى الميراضور (محل مشرف على البحر)، ولكن لما تقدمت المحادثة بعد ذلك ظهر على تشرشل شيء من الاضطراب، الأمر الذي دل على وجود شيء غير عادي".!! " كان الحديث الذي يدور بحرارة بين والدي والسلطان الذي كان يتحدث عن خيرات المغرب الطبيعية والامكانيات الواسعة التي يمكن أن تسهم في ازدهاره، وكان الانشراح ظاهرا على كل واحد منهما في هذه المحادثة، وكانا معا يتكلمان اللغة الفرنسية بسهولة بينما لم يكن تشرشل يتكلمها!، وهكذا أمكن للمتحادثين أن يتعمقا في دراسة مسائل مختلفة كرفع مستوى معيشة المغاربة، وهو أمر يستلزم إبقاء قسط كبير مما تدره خيرات البلاد داخل حدود المغرب! "وصرح السلطان بأنه يرغب رغبة أكيدة – وفي دائرة الإمكان طبعا – في أن تمد له يد الإعانة لإنجاح الجهود التي يبذلها لتزويد بلده بمؤسسات صحية عصرية وتوسيع نطاق التعليم..." "فأبدى والدي، إثر ذلك، رأيا مفاده أن السياسة الرشيدة في مثل هذه المشاريع تحتم على السلطان ترك سياسة التساهل والتنازل إزاء المصالح الأجنبية حتى لا يحرم البلد من خيراته! فحاول تشرشل تغيير مجرى الحديث، ولكن السلطان تابع كلامه واستفهم أبي عما يمكن استخلاصه من نصيحته بالنسبة للحكومة الفرنسية بعد تحريرها واستقلالها" "فلاحظ أبي – وهو يقلب شوكة الأكل بين أصابعه – أن الأحوال ستتغير تغيرا جذريا بعد الحرب، وخصوصا في الميدان الاستعماري! وهنا سعل تشرشل محاولا تغيير مجرى الحديث! ولكن السلطان تناول الكلمة مرة أخرى وسأل أبي عما يعني بالتغييرات الجذرية، فأجاب أبي بأن رجال المال من الفرنسيين والانكليز كانوا ألفوا قبل الحرب شركات تتجدد تلقائيا غايتها استغلال ثروات المستعمرات. ثم أشار إلى إمكان العثور على ثروات بترولية، فتناول السلطان هذه المسألة بجد، وصرح بأنه يرى أن تستثمر كل الخيرات الطبيعية على شرط أن لا يغادر المردود البلد المستثمر! ثم هز رأسه متشائما وأظهر تأسفه على قلة العلماء والمهندسين من بين مواطنيه، ذاكرا أن المغرب لا يتوفر على فنيين قادرين بدون مساعدة خارجية على إنجاز مثل هذه المشاريع"! "وهنا بدأ تشرشل يتحرك فوق كرسيه ويبدو عليه القلق والحيرة!! فهمس أبي في خفاء: إنه من الممكن على سبيل المثال إعداد مهندسين وعلماء بفضل تخطيط يرمي إلى تبادل جامعي مع الولايات المتحدة..." "فهز السلطان رأسه مستحسنا ومعلنا موافقته على هذا الرأي، ولولا قواعد البروتوكول التي يتعين احترامها في مثل هذه الاجتماعات لأخذ السلطان عناوين الجامعات الأمريكية التي ينوي إرسال شبان بلده للتعلم فيها"!! "وتابع أبي تبسيط فكرته – وهو يحرك الكأس الذي يشرب فيه الماء – ذاكرا للسلطان أنه يمكنه أن يطلب بكل سهولة مساعدة المؤسسات التجارية الامريكية لتعينه على وضع خارطة للاستغلال مقابل نسبة مئوية من الأرباح أو مقابل أجر إجمالي، وهذا الشكل من التعاون سيكون من نتائجه أنه يتيح لحكومة المغرب - البلد ذي السيادة – أن تراقب الثروات الوطنية مراقبة واسعة، وأن تنتفع بقسط كبير من عوائد هذه الامكانيات المضمونة، وأن تمسك بيديها قريبا أو بعيدا مقاليد الأمور الاقتصادية". " فغمغم تشرشل وتظاهر بأنه ينصت إلى الحديث، لقد كان العشاء ممتعا جدا قضى الضيوف أثناءه – باستثناء واحد منهم – ساعة سارة جدا... وعندما خرجنا من قاعة الأكل أكد السلطان لأبي – وعيناه يشع منهما بريق – أنه سيطلب بمجرد ما تضع الحرب الدائرة أوزارها عون الولايات المتحدة ليمكن للمغرب أن ينطلق انطلاقا كاملا"!!. "ها هو ذا مستقبل "جديد يلوح لبلادي"! قال السلطان هذه الجملة وهو يغادر قاعة الأكل، ووراءه الوزير الانجليزي الأول يمتص سيكارته والقلق ظاهر عليه!. بعد هذه الشهادة الحية لنجل الرئيس الأمريكي نأتي على ما ورد من تحليلات في تأليف المؤرخ البريطاني الأستاذ روم لاندو Rom Landau قال الكاتب البريطاني الذي تعرفت عليه فيما بعد في بيت السيد احمد بناني مدير التشريفات الملكية وكان يحكي عما كتبه وهو متحمس لما يرويه عن ذلك اللقاء كان من أبرز الحوادث في حياة السلطان سيدي محمد بن يوسف، أثناء الحرب، مقابلته للرئيس روزفيلت، ذلك أنه إذا كان لم يحدث أي ارتباط سياسي بين الرجلين فإن مغزى الاجتماع يرجع إلى أن محمد الخامس تحادث فيه لأول مرة، منذ تولي العرش، على قدم المساواة مع رئيس دولة، ولأن الاجتماعات التي سبق أن عقدها مع الممثلين الأجانب نادرة الوقوع، وإذا حصلت فكانت تحت رعاية الفرنسيين على ما كان يفرضه البند الخامس من معاهدة الحماية على ما أسلفنا! وقد اجتمع السلطان مع الرئيس الأمريكي أثناء مؤتمر الدار البيضاء الذي عقد في يناير 1943، وشارك فيه جميع زعماء الحلفاء: روزفيلت، وتشرشل، وأيزنهاور، وهاري هوبكنز، والجنرال باطون، كما شارك فيه الجنرالان جيرو ودوكول، وكان الفرنسيون يودون أن يتعاون زعماء الحلفاء مع المقيم العام وحده، فقد كان المقيم إلى جانب منصبه وزير خارجية السلطان! ولكن غضب روزفيلت على ممثل الحماية بلغ حدا جعله يصر على مقابلة السلطان، فاستدعاه هو وابنه الأكبر مولاي الحسن إلى تناول الغذاء في فيلا (دار السعادة) وهو المنزل الذي كان يقيم به الرئيس خارج الدار البيضاء... " كانت المناسبة بالنسبة للسلطان أكثر أهمية من أن يعتبرها مناسبة لتبادل المجاملات، ولذلك طلب أن يجتمع على انفراد بالرئيس... وتم الاجتماع دون أن يشارك فيه ما دار من حديث، حتى مستر تشرشل نفسه، ومهما يكن المستوى الذي بلغته القرارات التي اتخذها زعماء الحلفاء، ومهما تكن أهميتها فإن أقرب موضوع إلى قلب السلطان لم يكن موضوع الحرب التي لا تستطيع بلاده أن تقوم فيها بدور كبير وإنما كان أقرب موضوع إلى قلبه هو المصير الذي يكتب لبلاده في المستقبل، وبالرغم من أن كل ما يعرفه عن روزفيلت كان يدفعه إلى أن يتطلع إلى الاجتماع بنظرة المتفائل، فإن الرئيس روزفيلت تجاوز كل ما كان يتوقعه السلطان من حماسة وهو يتحدث عن المغرب ومستقبله، وبالرغم أنه كان من الواضح أنه يوجز في حديثه، فقد طلب من السلطان أن يحيطه علما باقتصاديات المغرب، وتقدمه الاجتماعي، وقد قال: إنه يعلم عن ظروف الشقاء التي تعيش فيها أغلبية الأهالي، ويعلم عن الثروة التي جمعها المستوطنون الفرنسيون!. ولما ذكر السلطان أنه يشكر الرئيس إذا تفضل بإبداء بعض التوجيهات لتحسين حالة الأهالي من حيث الصحة والتعليم... وعده روزفيلت بأن يبذل كل ما في استطاعته... ولكن أكثر التصريحات تأثيرا هي تلك التي أكد فيها الرئيس أنه لا يرغب فقط في أن يتمتع المغرب باستقلاله في المستقبل، ولكنه أضاف إلى ذلك أنه لن يدخر جهدا للإسراع بتحقيق هذا الاستقلال حينما تضع الحرب أوزارها، وقد كرر هذا الوعد أكثر من مرة كما لو كان يريد أن يؤكد لضيفه أنه وعد صادق، وليس مجرد حديث مجاملة!!. "كانت عناية روزفيلت بمستقبل المغرب أكثر قوة من أن تكون مجرد أحاديث ديبلوماسية، ولم يعط وعده فيما يتعلق باستقلال البلاد في المستقبل عطاء عابرا يمكن أن ينسى، بل إنه حينما لقي الأمير فيصل ابن الملك عبد العزيز ابن سعود وزير خارجيته طرق معه الموضوع، وأظهر نفس الاهتمام الذي أظهره خلال محادثاته مع السلطان، كما كرر نفس الآمال والنوايا. وقد دفعني حب الاستطلاع إلى أن أسأل الأمير فيصل عام 1959م 1378ه، وهو ولي للعهد عن هذه المعلومة فأكد لي ذلك قائلا: "أنتم إخوتنا!" وكان علي أن أعرف زمن ومكان لقاء الطرفين: الأمير فيصل والرئيس روزفيلت، حيث علمت من خلال الوثائق أن الملك عبد العزيز بن سعود لما كان يروم تقوية المملكة والاستفادة من الخبرة الأمريكية عهد إلى وزير خارجيته بالاتصال بالرئيس الأمريكي روزفيلت حول الموضوع وانتهت الاتصالات إلى لقاء قمة مع العاهل السعودي على ظهر سفينة حربية حيث تم التوقيع على الميثاق الذي حمل في التاريخ الدولي اسم كونسي Quincy والذي تم توقيعه في شهر يبراير 1945 عند عودة الرئيس من مؤتمر يالطا... وهو الحدث الذي تعبر عنه الصورة الشهيرة التي تجمع بين الملك عبد العزيز وبين الرئيس روزفيلت. وقد مكن هذا اللقاء الاستراتيجي الأمير فيصل من تفعيل سياسة المملكة السعودية في التقارب العربي الأمريكي الذي كان ينشده مؤسس الدولة السعودية لنرجع بعد تلك المعلومة التي اختص بذكرها الكاتب البريطاني روم لاندو، إلى تحليله الذي يؤكد لنا أن السلطان سيدي محمد بن يوسف كان يعتبر اجتماعه بالرئيس روزفيلت حدثا ذا أهمية بالغة في تاريخ بلاده، ذلك أنه تمكن من أن يبلغ صوت المغرب إلى الرجل الذي كان يتمتع في ذلك الحين بنفوذ منقطع النظير في شؤون العالم، وقد اطمأن إلى ما سمعه من فمه، هو نفسه، من عطف على أماني المغرب الوطنية، وبذلك كان من الطبيعي أن تعتبر وفاة روزفيلت بعد اجتماعه بالسلطان بقليل (1945) قبل نهاية الحرب خسارة شخصية فادحة بالنسبة للشعب المغربي وملكه"... "ويتابع روم لاندو قائلا: وفي الوقت الذي تم فيه الاجتماع كانت الأمة المغربية تنظر إلى الرئيس الأمريكي على أنه أعظم رجال تلك الفترة، ومما زاد في عزتهم واحترامهم لأنفسهم هو أن الرئيس الأمريكي لم يكن راغبا في مجرد مقابلة سلطانهم فحسب، وإنما كان راغبا في معاملته على أنه حاكم ذو رأي وخطط للمستقبل... يمكن أن يقال أن الاجتماع بين السلطان والرئيس قد فتح عهدا جديدا في الشؤون المغربية، فقد وضع المغرب على الخارطة الأمريكية أو على الأقل خارطة الرئاسة، وأحيى في نفس السلطان وشعبه الأمل بأنهم ضمنوا تأييد حليف، له من قوته ما يمكن لبلادهم من أن تحصل في المستقبل على ما تريد... "... فقد أبدى الرئيس أكثر ما يمكن من الاهتمام بماضي المغرب وحاضره، وقدم ملاحظات متعددة تتعلق بمستقبله، وأن السلطان الذي سره اهتمام المضيف كان يقدم المعلومات اللازمة، وكثيرا ما طلب منه النصح، وقد أثر في نفس الرئيس اهتمام السلطان الدقيق بأمريكا تأثيرا حسنا. يقول أحد الذين كان لهم شرف استضافة الرئيس الأمريكي في مراكش بعد ذلك ببضعة أيام: "تحدث إلى الرئيس عما دار بينه وبين السلطان، وعن الاهتمام الخاص الذي أبداه الملك بأمريكا وبكل شيء أمريكي"، وقد اتضح لكل واحد أن السلطان والرئيس كانا مسرورين في ذلك الوقت، وقد تضمنت الملاحظات التي أبداها الرئيس أن المغرب يجب ألا يسمح للأجانب بأن يمتصوا ثروته، وأنه يجب أن يطور إمكاناته الاقتصادية لمنفعته الخاصة، وإن "حكومة ذات سيادة يجب أن يكون لها إشراف كبير على موارد الثروة في بلادها" ... "إن أشد أنصار المغاربة تأييدا لطلبهم الاستقلال كان عليه أن يتذكر أن ابريطانيا العظمى والولايات المتحدة لم تكونا في حرب مع فرنسا، وأنهما، بغض النظر عما يمكن أن يؤول إليه الأمر، لم يعهد إليهما بحل القضية المغربية، ومع ذلك فقد كان من الواضح ان مثل هذه الاعتبارات لم تكن ذات قيمة كبيرة بالنسبة إلى أولئك الذين كانوا يشتركون في الاجتماع، وقد كان من الطبيعي أن يكون السلطان قد فهم من هذا كله أن الرئيس قد ضمن للمغرب استعادة سيادته التامة سياسيا واقتصاديا... ومثل هذا الانطباع زادته قوة أقوال متعددة تفوه بها روزفيلت أثناء محادثات أخرى حول الموضوع نفسه، مثال ذلك أنه التقى بعد بضعة أشهر بوزير خارجية الملك عبد العزيز ابن سعود (الأمير فيصل)– كما سلف القول- وأعاد على مسامعه آراء مثل "حق المغرب في أن يستفيد مما هو ملك حق له". "... ويضيف روم لاندو إلى هذه التعليقات قوله: كان إليوت ابن الرئيس يدون حالا ملاحظات عن الأحاديث التي جرت مع أبيه... ومن ملاحظات الرئيس التي ليس فيها غموض: "لماذا يصبح المغرب وسكانه من المغاربة ملكا لفرنسا؟ أي شيء لا بد أن يكون خيرا من العيش تحت حكم الاستعمار الفرنسي عندما نربح الحرب، سأبذل كل جهدي وقوتي لأتأكد من أن الولايات المتحدة لن تكون في وضع تقبل فيه أية خطة من شأنها توسيع المطامح الاستعمارية"!!. "وقد تلقى السلطان فيما بعد من الرئيس رسالتين تركتا في نفسه شعورا بالاطمئنان كالاطمئنان الذي حصل عليه من قبل، والمعتقد أن روزفيلت كتب إلى السلطان فيهما "واعدا إياه بأن يعمل بنفسه، عند انتهاء الحرب، على التعجيل باستقلال المغرب"، ولو أن الرئيس عاش مدة أطول لكان ممكنا أن يكون عند وعده على ما يرى المراقبون الفرنسيون..." وقد علّق كاتب فرنسي هو الأستاذ روجي لوتورنو في كتابه "التطور السياسي لإفريقيا الشمالية الإسلامية" علّق على نفس الموضوع بأن النزول الأمريكي في المغرب جعل السلطان يشعر بأن الوقت قد حان للانعتاق من النفوذ الفرنسي! وتجلى هذا بكيفية ذات قيمة ومغزى عندما رفض السلطان طلب الجنرال نوكيس اللجوء إلى مكناس- أثناء الحرب- وتجلى أكثر بمناسبة الاجتماع في مؤتمر آنفى بالدار البيضاء، وقد مكنت المحادثة بين السلطان والرئيس من الشعور بأن المغرب خطا خطواته السياسية الأولى، ومهما يكن فقد تحدث الطرفان بما فيه الكفاية للتفاهم، فالسلطان كان يعلم أن روزفيلت سيجتهد لتفكيك العلاقات بين المغرب وفرنسا، ولبذل المعونة التقنية والمالية الأمريكية، بينما تأكد الرئيس من أنه فتح آفاقا شاسعة وجدية لشعب جديد، وباختصار ففي بضعة أيام تحولت نظرة السلطان، فانتقل فجأة من فترة الصّبا إلى فترة المراهقة السياسية مع ما يصحبها من فورات ورغبات، وقد ودّع السلطان رئيس الولايات المتحدة وهو رجل آخر يحلم بمستقبل جديد لبلاده! | ||