المقالات


  التاريخ الآخر للمغرب ابن العربي المعافري نموذجا  
 

الدرس الافتتاحي الذي أعده د. عبد الهادي التازي عضو أكاديمية المملكة المغربية بجامعة الملك محمد بن عبد الله – فاس، بدعوة من رئيس الجامعة الأستاذ الدكتور السيد السرغيني الفارسي يوم الخميس 25 من ذي القعدة 1433 الموافق 11 أكتوبر 2012، بالقاعة الكبرى لكلية الطب.

تاريخ المغرب الذي قرأناه بالأمس، كنا نسمع فيه عن قائد تغلب على قائد فانتزع من يديه ما كان يستولي عليه، وكنا نسمع فيه عن قتل هذا الزعيم لزعيم آخر وإقامة إمارة أخرى، وكنا نسمع عن بيعة ملك نظرا لما يتوفر عليه من كريزمات تبرر اختياره، ثم عن عزله لأنه لم يقم بواجباته .. !

هكذا كنا نقرأ تاريخنا المحلى، طبعا إلى جانب تاريخ معلمة من المعالم التاريخية شيدت هنا أو هناك أو قنطرة بنيت على هذا النهر في الجنوب أو الشمال ...

لكن هناك تاريخا آخر كانت مصادرنا كسولة في كتابته أو الالتفات إليه، ذلك تاريخ علاقاتنا مع الأمم الأخرى التي تقع على ساحل البحر المتوسط أو ساحل المحيط الأطلسي ... علاقات المغرب بباقي ممالك إفريقيا، بأوروبا، أو آسيا، أو أمريكا. ذلك "التاريخ الجميل" الحافل بكل المعطيات، عرفنا من خلال ذلك "التاريخ الجميل" الحسن القانوني للمغاربة الرجال الذين كانوا يعقدون الاتفاقيات والمعاهدات، ويرفعون الرسائل والخطابات إلى ملوك وقادة الأمم الأخرى ..

عرفنا من خلال ذلك "التاريخ الجميل" عن دور الأدب الإداري الذي كان يتمثل في إنشاء الرسائل التي تنتقل من فاس أو مراكش أو مكناس مثلا إلى الجهات الأخرى التي احتفظت – لحسن الحظ – بنصوصها الرفيعة الرائعة ...

التاريخ الدولي لأمة من الأمم يعني التعبير عن مظهر من مظاهر رقيها وترفها لأن الدولة لا تفكر في الاتصال بالعالم الخارجي إلا إذا كانت داخليا في وضع سعيد رغيد ...

عرفنا من خلال ذلك "التاريخ الجميل" عن "العُملة" " السِّكة" التي كان المغرب يتعامل بها داخلا وخارجا، وسجلنا حضور عُملتنا من عهد ما قبل ظهور الإسلام إلى اليوم، قادتنا كابرا عن كابر بأسمائهم وشعاراتهم، كل هذا "التاريخ الجميل" أهملناه ...

مؤرخونا من أمثال ابن صاحب الصلاة، والمراكشي، وابن أبي زرع، وابن خلدون، والقلقشندي ... سجلوا بعض اللقطات، لكنهم كانوا غائبين عما يوجد في الأرشيفات والمصادر الأوروبية .. !

لم نكن نعرف عن زواج العاهل المغربي يوبا الثاني بالأميرة المصرية كليوباترا سيلني حتى وقفنا على سكته التي تحمل صورته إلى جانب صورتها ...

لقد قدر لي أن أنتقل من سلك التعليم إلى السلك الدبلوماسي ووجدت نفسي يوم الاثنين 13 مايه 1963 أمام الملك الحسن الثاني يقلدني وظيفة السفير ببغداد .. فأعربت له عن غبطتي بالوظيفة الجديدة وقلت له : إنني سعيد جدا أن أكون حلقة من حلقات السلسلة التي تربط المغرب بأرض الرافدين وذكرت له اسم : الإمام عبد الله ابن العربي الذي راح إلى بغداد صحبة ابنه أبي بكر سفيرا ليوسف ابن تاشفين بهدف ربط الصلات بين جناحي العالم الإسلامي ... 

هنا طلب مني أن أتولى كتابة هذا التاريخ، ورحت أبحث في غضون المكتبات والخزانات فوجدت نفسي أنني أعيش مع "تاريخ آخر" ... لم أقرأه في كتاب ولم أسمع به في مجلس !

هذا ما أردت أن أقوله لأبنائنا وبناتنا إن لم أقل أحفادنا وحفيداتنا. حرام أن لا يخصص لهذا "التاريخ الجميل" كرسي في كل جامعة من الجامعات المغربية، حرام أن لا تحتفل بهذا الجانب الحضاري من جوانب حضارتنا وثقافتنا، إنه رافد من روافد هويتنا الوطنية ... حرام أن لا نبحث عن نفوسنا في دهاليس المكتبات الأوروبية، والآسيوية والإفريقية ... في بطون الكتب والمنعرجات والمنعطفات !!

هناك على مقربة من جامع القرويين فسقية "خصة" عظيمة من الرخام تزن مائة قنطار وثلاثة وأربعين قنطارا نقلت من ألمرية الأندلسية وعبرت بوغاز جبل طارق إلى ميناء العرائش عام 725/1324-1325، ومن العرائش حملت بالعجلات إلى أن وصلت إلى منزل قوم يسكنون على ضفة وادي  سبو، ونقلت منه إلى أن وصلت إلى ضواحي فاس حيث حملت إلى مدرسة الصهريج قبل أن نستقر بالمدرسة المصباحية عام 747=1346 المجاورة لجامع القرويين ... هل وقفنا على هذه "الخصة" واستحضرنا "تاريخها الجميل" الذي يحمل عددا كبيرا من الإشارات والدلالات ؟

وهناك بقلب جامع القرويين جرس ضخم جلبه المغاربة من جنوب أوروبا إلى قلب فاس، يحمل نقوشا باللغة اللاتينية، حوله الصناع بفاس إلى ثريا ... علقوه في القبة الثامنة  من المسجد منتصف شوال عام 737هـ الموافق 15 مايه 1338، في يوم حافل .. كان هذا الجرس وغيره من الأجراس المعلقة بالجامع، كان رسالة موجهة من أسلافنا إلى الأجيال اللاحقة تذكرنا بذلكم "التاريخ الجميل" ... فهل زرنا جامع القرويين اليوم ورفعنا أبصارنا لنكحل عيوننا بهذا الأثر الذي يذكرنا في "التاريخ الدولي للمغرب"؟ 

في هذه المدينة فاس كان لنا وال عظيم يحمل اسم عُمَر ويكنى أبا حفص، ويلقب بالمرتضَى، هو نبيط الخليفة عبد المؤمن بن علي مؤسس الدولة الموحدية، هذا الوالي أصبح بحكم التدرج الهيرارشي على قمة الدولة الموحدية عام 646=1248 ...

كان يراسل دول أوروبا، راسل أعظم سلطة في العالم المسيحي : البابا إينوصات الرابع، لقد شعر من خلال المراسلات المتبادلة أن البابا يريد أن يواصله بإرسال سفير عنه إلى المملكة المغربية، فبعث له أبو حفص عمر المرتضى برسالة عظيمة جميلة تحمل تاريخ 18 ربيع الأول 648 = 20 يونيه 1250 .

هذه الرسالة ضيعنا نسختها، ومن حسن حظنا أن حاضرة الفاتيكان تحتفظ بالنسخة الأصلية لها، وهي الوثيقة التاريخية التي اخترتها – من بين مئات الوثائق – كمقدمة للموضوع الذي نتناوله اليوم في هذا الدرس الافتتاحي بعنوان : 

(التاريخ الآخر للمغرب ... ابن العربي المعافري نموذجا)







 
     

مزيد من المعلومات
الإسم

اللقب
اتركوا رسالتكم هنا
البريد الإلكتروني
الهاتف
يرجى إدخال الرموز كما تظهر في الصورة أدناه *