المقالات


  أثر الحوار في العلاقات الدولية بين الأمس واليوم  
 


موجز العرض الذي تقدم به  د. عبد الهادي التازي عضو أكاديمية المملكة المغربية في مؤتمر الحوار العالمي المنعقد في قصر فيريادي مدريد (FERIA DE MADRID). بالمملكة الإسبانية، من لدن رابطة العالم الإسلامي برعاية كريمة لخادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وبترحيب مشكور من لدن جلالة الملك كارلوص عاهل المملكة الإسبانية، بتاريخ 16/18 يوليه 2008.



كان لاختيار المملكة الإسبانية مكانا لهذا اللقاء الكبير، وفي هذا الوقت بالذات، دلالة على ما تمتاز به المملكة الإسبانية من إرث شهد طوال الزمن، تعايشا وازدهارا أسهم – كلنا يعلم – في تطور الحضارة الإنسانية جمعاء ...

 نعم كان لهذا الاختيار دلالته العميقة لأنه اختيار يعبر نفسه عن الاقتناع بأن الحوار بين الشرق والغرب يظل الوسيلة الوحيدة للتخاطب بين الأمم والشعوب ...

وإن كل المتصفين في مختلف الجهات الأخرى من اللذين يتطلعون لمعرفة حقيقة، الإسلام ليعلمون جيدا أن الإسلام في صدر الديانات التي أعطت حيزا كبيرا لقضيته الحوار ... وفي صدر الديانات التي آمنت بجدوى التعارف بين البشر مبدءا وسلوكا، بل إنه الدين الذي نستحسن من تعليماته الدعوة إلى كل ما يهدف إلى الاقتراب من الآخرين مهما كانت مواقعهم الجغرافية ...

إن الأودية والبحار والأنهار والمحيطات لم تكن أبدا عائقا عن الاتصال بل إنها كانت على العكس من ذلك، وسائل اتصال بين الأمم والشعوب ...

لقد كان المهم في دار الإسلام هو بسط العدل والأمن بين الناس حتى لجعل الإسلام الطمأنينة شرطا للقيام بعبادة الله.

سوف أكتفي بالإشارة إلى ما نقرأه في القرآن الكريم من إشارات واضحة بينة تدعو إلى مد الجسور وربط الصلات الطيبة مع الآخرين : 

" أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" 

 "Humains! Nous vous Créâmes d'un male et d'une femelle, pour vous répartir ensuite en nations et en tribus, ainsi vous pourrez connaître entre vous" 

وإن هناك المئات إن لم أقل الآلاف من المأثورات الإسلامية التي تعبر عن رغبة الإسلام في أن ينشئ قومه قواعد لهم واضحة مع الآخرين لضمان التساكن والتعايش بينهم وبين جيرانهم ... الأقربين والأبعدين ...

لعل أسلافنا كانوا أكثر فهما منا لجدوى الحوار من أجل بناء الحياة على أسس سليمة كريمة ... كانوا أكثر حرصا على طريق أبواب الحوار بينهم وبين من يعيش معهم على هذا الكوكب حتى ولو كان هذا الذي يحاورهم على اختلاف معه في طريق الحياة، حتى ولو كان على خلاف معهم في المعتقد وفي اللسان ... حتى ولو كان على خلاف معهم حول قضية ما من القضايا الدنيوية ...

كان الأسلاف يشعرون بواجبهم في البحث عن أية وسيلة للاقتراب من الآخرين لأنهم كانوا على علم تام بوحدة الشعور بين بني الإنسان ...

وإذا ما قمنا باستحضار السجلات الطويلة التي تتضمنها بطون الموسوعات التاريخية من أمثال "صبح الأعشى للقلقشندي، وأمثال تاريخ ابن خلدون ...

وإذا قمنا باستعراض للمجاميع الغربية المتعددة اللغات، لوجدنا أنها كلها تنوء بنصوص محكمة لاتفاقيات وعقود في منتهى الأهمية تسعى إلى ضمان السلام بين الناس.

ذلك الرصيد المشترك بيننا والذي يوجد لحسن الحظ على مقربة منا في هذه الديار أو تلك، علينا أن نرجع إلى تلك المصادر لنضيفها إلى ذاكرتنا ونسترشد بها ونحن نبحث عن طرق لقاءنا! علينا أن نستحضر كل ذلك لنزداد إيمانا بأن الاتفاقيات الدبلوماسية التي أبرمت بين دولة الإسلام والدول الأخرى كانت جميعها تعكس، في واقع الأمر، رغبة الأسلاف : أسلافنا جميعا وإيمانهم بجدوى الحوار ...

كانت تلك الاتفاقيات تنم عن حس قانوني رفيع وعن شعور بالمسؤولية حول إيجاد أرضية قوية لبناء الصداقات على أساس من الثقة المتبادلة ... لم تصل تلك النصوص في لحظة واحدة إلى مداها ولكن الوصول إليها تم بعد أسابيع وربما بعد شهور وأعوام من تبادل الرأي بين الأطراف المعنية...

والمهم أن هذا الحوار يصل في نهاية المطاف إلى اتفاق بين الجهتين أو الجهات على أسس لبناء سلام يضمن الحياة الكريمة ...

ذلك الاتفاق على السلام قد تكون مدته غير محدودة ... وقد يحدد أمد الاتفاقية بنصف قرن على نحو ما رأينا في الاتفاقية المبرمة بين العاهل المغربي الملك محمد الثالث وبين الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن ...

وقد يصل الاتفاق إلى عشرين سنة أو عشر سنوات على ما رأينا في معاهدة الحديبية.

المهم أن نعرف أن الحوار أسهم بصفة ملحوظة في إيجاد فترة سلام بين أقوام وأقوام ... وهذه وحدها نتيجة كافية تعد في صدر مزايا (الحوار وأثره في العلاقات الدولية) الذي هو موضوع الحديث ...

ولعل من المفيد أن اكتفى هنا بتقديم نموذجين اثنين من أثر الحوار في العلاقات الدولية بالأمس ... وسيتجلى لنا من خلال هذا التقديم أننا ربما نعيش مع الخيال ونحن نقدم وثائق مكتوبة باللسان العربي ومترجمه إلى اللغة الفرنسية والاسبانية ...

ومن الطريف أن تكون هاتان الوثيقتان معا مما يتصل بالعلاقات بين الدول المطلة على البحر المتوسط التي نسمع الحديث اليوم عنها في أجهزة الإعلام الدولية.

يتعلق الأمر بادئ ذي بدء بوثيقة توجد مصادرها الأولى ضمن التآليف التاريخية المغربية، نثرا وشعرا، كما توجد في المصادر الأوروبية وخاصة الاسبانية ولاسيما الفرنسية ونعني المتحف الوطني بباريز...

وهذه الوثيقة عبارة عن رسالة تاريخية من ملك المغرب أبي يوسف يعقوب ثاني ملك في دولة بني مرين إلى ملك فرنسا فيليب لوهاردي  

تحمل الرسالة تاريخ 20 رجب 681= الموافق ليوم 24 أكتوبر 1282  الرسالة تتعلق أساسا بالصلات بين المغرب واسبانيا في ذلك التاريخ، وقيام المغرب بالمساعي الحميدة من أجل المصالحة بين فرنسا واسبانيا ...

ملك المغرب أبو يوسف يكتب لملك فرنسا فيليب لوهاردي من أجل عرض مساعيه لكي يصالح جاره ملك اسبانيا ألفونس العاشر الذي كان في حاجة إلى النجدة العسكرية المغربية حتى يتغلب على ثورة ابنه شانصو!

وقد جاء في خطاب ملك المغرب أبي يوسف لملك فرنسا ما يلي : 

إنني بالرغم من أننا بحال مخالفة معكم في المذاهب والأديان ... لكن رأينا أن نعمل واجبنا تحقيقا للمصلحة التي تربطنا جميعا في هذه المنطقة التي نعيش فيها والتي كان يعنى بها منطقة الأورو متوسط. 

لولا أن هذه الوثيقة موجودة على رفوف المتحف الوطني بباريز ولولا أن الدراسات اهتمت بها -من لدن عدد من العلماء- لحسن الحظ، لولا ذلك لحسبناها من قبيل الخيال!!

وهي – كما نرى – تؤكد أن أسلافنا كما قلت كانوا يفكرون أحسن منا، وكانوا يجدون في الحوار الوسيلة الحضارية الأولى للحفاظ على أواصر الود والحب، وهذا ما يدعو إليه اليوم المجتمع الأورو متوسطي إلى العودة إلى الماضي بعد مرور ثمانمائة قرون ونصف القرن، على خطاب عاهل مسلم لملك مسيحي، من أجل الدعوة إلى المصالحة مع ملك مسيحي ثالث كذلك.

أما عن الوثيقة الثانية التي تتصل بالعلاقات بين ملك المشرق خليل بن قلاوون والعاهل الاسباني جان الثاني فإنها تتعلق باتفاقية بين الملكيين بتاريخ 19 صفر 692= 28 يناير 1292.

لقد وصل الحوار بين مصر وبين اسبانيا إلى عقد اتفاقية من منتهى الأهمية في العصر الوسيط وهي التي نقدمها اليوم أمام هذا المحفل الكبير، وهي تؤكد أن الحوار، ولو أنه دام حولها بضعة شهور لكنها حققت ما كان بعض الباحثين يعتقدون أنه من قبيل المستحيل ... ( ).

بالإضافة إلى ما كانت الاتفاقية تفيده عن التقاليد المتبعة في مثل تلك اللقاءات من :

1) أداء القسم بين الأطراف المتعاقدة تأكيدا للنوايا الحسنة والثقة المتبادلة ...

2) وفي خضوع الاتفاقيات لوضع خطوط اليد.

3) إثبات التاريخ بالقمري وبالشمسي. 

4) النص على أمد الاتفاقية وإلى متى ينتهي العمل بها ...

5) وإلى النص على المساحة التي تشملها بنود الاتفاقية.

6) وإلى النص على عدد القوميات التي توجد في البلد المتعاقد معه.

بالإضافة إلى ذلك نلاحظ أن الاتفاقية المذكورة تنص على التعاون في ميدان الملاحة البحرية، وعلى تبادل الخبرة في موضوع الأساطيل والمحافظة على سيرها على نحو ما تضمن الباب المفتوح ... 

كما نلاحظ أن الاتفاقية تحترم حق الإرث للأقرباء في المتوفين من الطرفين في بلاد الآخر، بمعنى أن الدولة تحترم مال الأجانب على نحو ما تضمن حصانة السفراء فيما يمتلكون. 

وكذا تنص على أن الراية تحمي البضاعة مما يؤكد أن الحس القانوني للمتعاقدين. 

وكان المهم في الاتفاقية أنها تمنع اللجوء إلى القوة في أخذ الحق! وتنص على ضرورة الحوار وإلى القضاء في أخذ الحقوق.

والاتفاقية إلى جانب كل هذا تلتزم، وهذا مهم جدا، تلتزم بحرية التنقل لأداء مناسك الحج وزيارة القدس الشريف للرجال والنساء على السواء، بمعنى أنها تحترم عقيدة الآخرين.

 وقد كان هذا البند، كما قلنا، من أهم البنود التي نصت عليها الاتفاقية مما يؤكد الانفتاح على الآخر بل والترحيب به في أحسن الظروف.

أصحاب المعالي والفضيلة

تلك انطباعاتي على الأمس وتلك هي بالذات انطباعاتي عن اليوم وغدا، فكل ما نقرأه يوميا وما نشاهده يوميا من اتصالات دبلوماسية واتفاقيات دولية إنما كان نتيجة للحوار الذي آمن به المجتمع الدولي كطريقة لا ثاني لها لضمان العيش الكريم ...

وبالمقابل فإن كل ما نقرأه ونسمعه من يوميات دامية ومن صراعات وتشنجات وتوترات ناتج عن ضيق حنجرتنا بالتفاهم مع الآخر، وناتج عن كبريائنا حتى لا نسمع آراء الآخرين...

لقد قمت بإحصاء بناء على معطيات أمنية دولية ووصلت إلى الحقيقة التي تؤكد أن ما يترجم عن حضارة أمة ما، وتقدم أمة ما، أن لا تفكر في التغلب على مشاكلها باستعمال القوة لنيل الغرض أصبح متجاوزا اليوم، ويبقى طريق المناقشات هو الوحيد للوصول ... قد يطول الوقت ويمتد، ولكن نتائجه تبقى دائما مضمونة النتائج ...

من هنا سأرجع إلى القول بأن اهتمام رابطة العالم الإسلامي بفتح ملف الحوار على الصعيد العالمي فكرة وازنة واعدة، ولهذا فإنها فكرة تستحق التنويه والإشادة على نحو ما يستحقه التقريب بين المذاهب داخل بيت الإسلام ... كلا العملين المتوازيين ضروري لخدمة الاستقرار والأمن والاطمئنان".

إنها لظاهرة صحية حقا أن يتنبه القادة والمصلحون في العصر الحاضر إلى أن يقولون للناس : هذه هي الطريقة! وأن يتحدثوا إلى أبناء جلدتهم بلسان خال من الأنانية والغرض الشخصي، لسان يمتد قوته من الشعور بواجبنا نحو الغير: وحسبنا أن نسترشد بالحكمة الذكية التي تقول : "إن من أنكر لغيره من المشاعر ما عرفه لذاته فقد سد على نفسه معرفة الناس".














م

 
     

مزيد من المعلومات
الإسم

اللقب
اتركوا رسالتكم هنا
البريد الإلكتروني
الهاتف
يرجى إدخال الرموز كما تظهر في الصورة أدناه *