المقالات


  أبو يوسف بن عبد الحق من مؤثث لمدينة فاس إل صانع للسلام في أوروبا ت 685 هـ 1286م  
 

ملخص العرض الذي قدمه د. عبد الهادي التازي عضو أكاديمية المملكة المغربية للندوة التي عقدتها الأكاديمية بفاس بتاريخ 18-19-20 دجنبر 2008 إسهاما منها في تخليد ذكرى مرور ألف ومائتي سنة على تأسيس المدينة.


لقد اخترت الحديث عن شخصية أبي يوسف ابن عبد الحق لأن معظم الناس لا يعرفون بعض الجوانب الهامة من حياة هذا الملك الجليل القدر الذي ينعته المؤرخون عن حق بأنه سيد بني مرين على الإطلاق . 

هذه الجوانب الهامة من حياة الرجل تتعلق، في صدر ما تتعلق به، بأنه على العكس مما فعله الإمام إدريس القادم من الجزيرة العربية بالأمس عندما اختار زوجته كنزة من أصل بربري، على عكس ذلك اختار أبو يوسف بن عبد الحق البربري الأصل أن تكون زوجته عربية، وكانت هي أم العز بنت محمد بن حازم العلوي التي كانت ضمن الفوج الذي صحب الحسن الداخل. لقد أهديت له أم العز في سجلماسة عندما افتتحها بنو مرين. 

كانت أم العز عظيمة في بني قومها، مرموقة بين عشيرتها، وقد وجد فيها أبو يوسف ما كان يتمناه في مساره السياسي مما قرأناه عن الكثير من القادة المحظوظين الذين كانت وراءهم سيدات فضليات عاقلات حكيمات.

لقد ذكرني اسم أم العز هذه في أم العز التي كانت تساعد السلطان المولى إسماعيل في الشؤون السياسية، وكان تراسل السفراء بلغاتهم الوطنية .

تلك الجوانب الهامة من حياة أبي يوسف تمثلت فيما سمته المصادر التاريخية الاهتبال بالعلم وكان هذا يعني أنه يعرف طريقه نحو بناء الدولة ولا أدل على هذا من أن الرجل قام منذ فجر حياته عام 670هـ 1271 بتشييد مدرسة حملت في الحوالات الحبسية القديمة اسم مدرسة الحلفاويين، كما حملت اسمه "المدرسة اليعقوبية"، وتعرف اليوم باسم مدرسة الصفارين ... تحتوي المدرسة على كذا بيتا وعلى قاعة للدرس، ويعد محرابها أقوم محارب مساجد فاس، وكانت المدرسة تتوفر على خزانة كتب علمية مهمة يستفيد منها الأساتذة والطلبة، وقد خصصت لها أوقاف سخية لسد حاجياتها ومتطلبات أساتذتها وطلابها ومجالسها العلمية ...

كانت المدرسة حيا جامعيا بمصطلحنا اليوم، شيدها على بعد خطوة من جامع القرويين التي كان ذكرها يقترن بكل المعاني السامية، لقد ظلت القرويين الحصن المنيع الذي تعتز به القرى والجبال والمدن في كل جهات المغرب ... فالقرويين كما يتصورها المغرب ليست قرويين فاس وحدها وإنما هي قرويين جنوب المغرب وشماله وشرقه وغربه... وقد عرف كل الملوك الذين تعاقبوا على المغرب هذه الحقيقة التاريخية فظلوا - سواء أكانت عاصمتهم فاسا أو مراكش أو الرباط أو مكناس – ظلوا يولونها من التقدير ما هي جديرة به كمركز للإشعاع الفكري وكمعقل ذكي لإرجاع الضالين إلى طريق الصواب.

كل الدنيا تحدثت عن جامع القرويين، ولو كان رجال القرويين من الأمم الخالية لقص  الله تعالى شيئا من أخبارهم في كتابه العزيز !! 

تلك الجوانب الهامة من حياة أبي يوسف تمثلت لدي، في صدر ما تمثلت، في أنه بعد أن أثث جامع القرويين بهذه المدرسة استجاب لأهل الأندلس فيما يحل بهم من مضايقات ومعاكسات. فقد شعر ملك غرناطة محمد بن الأحمر الملقب بالفقيه، بتزايد الأخطار المحدقة به فبعث بسفارة إلى السلطان أبي يوسف لتقدم له صورة مما توجد عليه الأندلس ... وهكذا نجد هذا الملك العظيم ينهض من فاس في شوال 673=1275 ويصل إلى طنجة حيث جهز جيشا قوامه خمسة آلاف، ويعقد عليه لابنه أبي زيان بعد أن طلب إلى الشيخ العزفي صاحب سبتة أن يساعده بقطع من الأسطول لإجازة الجيش وقد حضر قصر المجاز عشرون قطعة من الأسطول، ساعدت الجنود على النزول في طريف في 16 من ذي القعدة من السنة المذكورة 673 = مايه 1275 حيث توغل الأمير في البلاد ونزل بساحة شريس JEREZ قبل أن يعود إلى الجزيرة الخضراء  ...

واتصلت الأخبار بالسلطان أبي يوسف فقرر الجواز بنفسه إلى الأندلس بعد الاطمئنان على الحالة الداخلية في شرق المغرب الذي كانت مسرحا لغارات متوالية من يغمراسن صاحب تلمسان ...

وهكذا فبعد أن استنفر الكافة واحتشدت القبائل، والجموع، شرع في عبور البحر من (قصر المجاز) في صفر عام 674 =1275، واحتل ساحل (طريف) ... 

والمهم أن نذكر أن السلطان أبا يوسف حين استنصر به ابن الأحمر، اشترط عليه التنازل عن بعض الثغور والمواقع، لإنزال جنده حيث سجل التاريخ تنازل أمير غرناطة عن (رندة) Ronda و(طريف) والجزيرة الخضراء . 

لقد ملأت كتائب الجيش ضاحية طريف ... وهناك عقد العاهل لولي عهده وابنه من السيدة أم العز العلوية سالفة الذكر : الأمير يوسف عقد له على خمسة آلاف من عسكره ثم تبعه على أثره، وسرح كتائبه في البسائط وخلال المعاقل حتى انتهى إلى حصن المدور AL MODOVAR وبياسة (BAEZA) وأبدة UBEDA ، وبلمة (BALMA).

وقفل أبو يوسف بعد هذه الحركات والأرض تموج بالأسرى الذي حصل عليهم وحط ركبه باستجة ECIJA.

وهنا في استجة وردت الأخبار على أبي يوسف بأن زعيم الإفرنج دونونه  DE NOUNA خرج بتكليف من ألفونس في جيش جرار لاستنقاذ الأسرى واسترجاع الأموال ... وكان جيش هذا الزعيم حاشدا جمع الناس من "المحتلم إلى الشيخ" على حد تعبير المؤرخين ...

وكان الصدام بين الجيشين يوم 15 ربيع الأول 674=9 شتنبر 1275، ولم يلبث أن أسفر التلاحم عن مصرع الزعيم دونونه الذي كان الملك ألفونس قدمه على جيوشه واستعمله على حروبه وفوض له جميع أموره ... وتذكر الرواية العربية أن القتل استحر في الجانب القشتالي حتى بلغت قتلاهم الألوف، وجمع المغاربة من رؤوسهم أكواما جعلوا منها مآذن أذنوا عليها لصلاتي العصر والظهر!! ... على ما يذكره المؤرخون. وقد تليت أخبار هذا النصر من أعلى منبر جامع القرويين التي اقتدت بها سائر منابر المغرب ... 

لقد أمسى أبو يوسف يلقب بالمنصور لأن المواطنين وجدوا فيه شبها بالمنصور الموحدي، وأصبحوا يعلقون عليه الكثير من الآمال في استقامة الأحوال وعودة أيام ما قبل معركة العقاب التي كانت طالع نحس بالنسبة لدولة الموحدين.

ومع اهتمام أبي يوسف بأمر الأندلس والأندلسيين، نراه - بعد عودته إلى فاس - يفكر في تحقيق مشروع معماري كبير أصبح يحلم به ...

لقد اقتنع بأن مدينة ادريس بعدوتيها : عدوة القرويين وعدوة الأندلس، لم تعد كافية لإيواء الواردين، وهكذا قرر وبتاريخ 3 شوال 674هـ 21 مارس 1276 بناء فاس الجديدة التي خطط لها مهندسون على نحو ما فعله الإمام ادريس عند بنائه لفاس القديمة، وهكذا شاهدنا ما سمي آنذاك بالمدينة البيضاء أو فاس الجديدة ...

كان الإقدام على تشييد المدينة الجديدة يعبر عن نظره البعيد، - أنا أسميه إدريس الثالث!! - لقد أصبحت فاس القديمة والجديدة كرسي المملكة بالنسبة للحاكمين، ومنسكا للصالحين والمتقربين، ومدرسة للعلماء والمتطلعين، ومستجما للمرهقين ومصحة للمتعبين وسوقا رائجة عرفت بأقدار التحف والنفايس ودار صناعة تجلت فيها عبقرية الإنسان ...

قصدها الناس من كل مكان متناسين أوطارهم وأوطانهم، ولكثر ما شعروا بالارتياح وهم يقيمون بوطنهم الجديد ولكثر ما تملكهم من حب وتقدير، عادوا يعتبرون أن نعت الشاوي والمراكشي، والأندلسي والرندي، والعراقي والشامي نعت لا يعني غير مجرد كلمة أصبحت في عداد التاريخ !!.

وقد كان في أبرز تلك القرارات بعد بناء فاس الجديدة قرار تفقد الديار الأندلسية ولاسيما وأن للعاهل أبي يوسف فيها – كلنا يعلم -  قادة عليه أن يتفقدهم بين الفينة والأخرى وخاصة بعد موقعة استجة ECIJA التي كانت تتطلب تعهد نتائجها والاحتياط من ردود فعلها! 

ومن هنا وجدنا أبا يوسف في تلك الديار مرة ثانية عام 676هـ 1277 حيث أجاز البحر من قصر المجاز إلى طريف التي وصلها أخر المحرم من العام المذكور ... ومن طريف والجزيرة الخضراء إلى رندة التي بقي فيها نحوا من ثلاثين يوما يتفقد منشئاته فيها، والتي كان المسجد الكبير في صدرها، قبل أن يرتحل عنها، حيث تمت مواجهة مع ملك الروم الذي خرج في حشود حافلة وعلى ترتيب تولت وصفه المصادر القشتالية والمغربية على السواء. 

وقد عاد أبو يوسف إلى مقره بالجزيرة الخضراء التي دخلها في الثامن والعشرين من ربيع الأول 676=28 غشت 1277.

ولم تسكن له حركة وهو في الجزيرة الخضراء حيث خرج منتصف ربيع الآخر يناوش مدينة شريس JEREZ DE LA FRONTERA، وإلى جانب هذا سرح ولده وولدي عهده وابنه من الشريفة أم العز الأمير يوسف من معسكره في سرية لشن الغارات الاستباقية على بعض المواقع قبل أن يعود إلى والده الذي سر لما قام بها الابن من مبادرات ...

وقد أخذ أبو يوسف يفكر بصفة جدية في استرجاع قرطبة باعتبارها بلدا يعتمد عليها الروم في معاشهم ... وبالفعل نهض إليها – بعد أن استنفر ابن الأحمر لمرافقته – وكان ذلك في فاتح جمادى الأولى من سنة 676هـ = 30 شتنبر 1277.

واحتل بالفعل ضواحي قرطبة وخفقت ألوية السلطان في نواحيها وضربت طبوله في فضائها ... ووصلوا حصن الزهراء، حيث أقام السلطان أبو يوسف بها ثلاثا قبل أن يرتحل عنها ليستقبل وفدا عن الأقسة والرهبان للوساطة في الصلح، وهنا وجدناه يحيل الوفد إلى ابن الأحمر قائلا : إنما أنا ضيف والضيف لا يصالح على رب المنزل !

وعاد أبو يوسف إلى الجزيرة الخضراء التي كان يشيد فيها قصوره وما يحتاج إليه لاستقبال ضيوفه قبل أن يعود إلى المغرب فاتح سنة 677 مايه 1278 حيث اهتزت البلاد لمقدمه ... بعد أن كان منبر القرويين ردد أصداء انتصاراته على ما قلنا ... 

وقد حدث أن تغير الجو بين العاهل المغربي وابن الأحمر الأمر الذي أدى إلى تخوف هذا الأخير من الأول وتوقعه أن يفعل به ما فعل السلطان يوسف ابن تاشفين مع المعتمد ابن عباد ..!! وهكذا وجدنا ابن الأحمر يجعل يده في يد ألفونس الذي لم يتردد في إعلان الحرب على ملك المغرب، ومهاجمة قطع أسطوله الموجودة في الجزيرة الخضراء، وتجاوز الروم هذا إلى أن يمنعوا العاهل المغربي من عبور البحر للوصول إلى قواعده في الأندلس ... ولم يقف الأمر عند هذا الحد ولكن تجاوزه إلى عقد حلف ثلاثي مارق يضم قشتالة وغرناطة وتلمسان أيضا، كل هذا كان بهدف كسر شوكة العاهل المغربي أبي يوسف!!

وفي خضم هذه الظروف نرى أبا يوسف يعهد لابنه الأمير يوسف باستنفار الناس والاستعانة بالأسطول لتحرير الجزيرة الخضراء وفك الحصار عن بني مرين. 

وقد صادف قيام هذه الحركة ندم صاحب غرناطة ابن الأحمر على ما كان بدر منه لاسيما عندما بلغت الأخبار عن استعداد أزيد من سبعين قطعة من الأسطول بمرفأ سبتة لعبور البحر إلى الأندلس ... وكانت الأخبار تصل الأطراف المعنية عن طريق الحمام الزاجل من جبل طارق ...

ولم تلبث الأساطيل أن أقلعت من طنجة ثامن ربيع الأول 678=19 يوليه 1279 واجتازوا البحر وباتوا ليلة عيد المولد بمرفأ جبل الفتح، وكان عدد أساطيل الروم يناهز أربعمائة قطعة !

والتحم القتال بالنبال بين قادة الأساطيل، حيث سجل التاريخ، ما عرف بواقعة الملند  (AL MALANDE)، وهي كلمة دخلت القاموس العام، وتعني القائد العام للأسطول وكانت النتيجة أن انهزم (الملند) حيث أخذ إلى مدينة فاس ...

استجابة أبي يوسف لنجدة ألفونس العاشر

والسلطان أبو يوسف بمراكش يعيش أيام استجمام إذا به يتوصل بخطاب خطير من ألفونس العاشر كانت تحمله سفارة هامة تتألف من بطارقته وزعماء دولته مستصرخا بملك المغرب على ابنه شانصو الذي تمرد على والده بتواطؤ مع بعض الزعماء المحليين ..!!

وهنا وجدنا هذا الرجل العظيم أبا يوسف يتسع بعده السياسي والدبلوماسي لسماع الخطاب الجديد بل ويستعد للرحيل بنفسه إلى الأندلس لرد الاعتبار لخصمه السياسي بالأمس القريب!!

وهكذا قصد مع جيشه (قصر المجاز) حيث عبر إلى الجزيرة الخضراء في ربيع الثاني 681=يوليه 1282 وسار حتى نزل (صخرة عباد) القريبة من رندة، والتي ما تزال إلى اليوم تحتفظ بموقعها الشامخ الجميل حيث تهتم النشرات السياحية بذكرها، وذكر اجتماع أبي يوسف مع ألفونس العاشر بها. 

هناك في صخرة عباد قدم عليه ألفونس حيث أكرم أبو يوسف موصله ورحب به، كما تذكر المصادر التاريخية المغربية والأندلسية على السواء.

ويذكر ابن خلدون وابن الخطيب – وهما مصدران قريبان من الزمان والمكان - كما يذكر غيرهما من الأثبات أن الملك ألفونس العاشر لما اجتمع بالعاهل المغربي قبل يده إعظاما لقدره على نحو ما قرأنا، قبل عقود عام 382 = شتنبر 1942 عن تقبيل يد المنصور ابن أبي عامر من لدن ملك الروم  ...

وهناك في (صخرة عباد) طلب الفونس من أبي يوسف أن يمده بالمال ليستعين به على ظروفه، فأسلفه - تقول الرواية العربية - مائة ألف دينار من بيت مال المسلمين بينما رهنه ألفونس تاجه الموروث عن أسلافه...!

قال ابن خلدون "وبقي هذا التاج بدار بني أبي يوسف بن عبد الحق بمدينة فاس فخرا للأعقاب، لهذا العهد، يعني أواخر القرن الثامن الهجري" ... 

ونحن نتحدث عن (صخرة عباد) لابد لي من الإشادة بمساعدة ثمينة تلقيتها من سعادة السيدة الفضلى عمدة المدينة مدام خوسي فين بيبي PEPI PHINE JOSE H.E. التي أبت إلا أن ترافقني يوم 28/8/08 في زيارتي للصخرة رفقة فريق يتألف من المؤرخين والآثاريين والمصورين، علاوة على ما قدم إلي من مقالات ومعلومات أصيلة عن هذا الموقع الذي  يعتبر بالفعل حصنا من الحصون المنيعة، وهو يؤرخ لبداية النهاية في الوجود العربي بالأندلس حيث كان الاستيلاء عليه - بعد معارك  متوالية عنيفة – مؤشرا للهيمنة على رندة التي كانت  تابعة للعاهل المغربي ! وقد ذكرني تسلق الصخرة والوصول إلى قمتها في شعر السموأل :

هو الأبلق الفرد الذي شاع ذكره

يعز على من رامه ويطول!!

لقد رافق العاهل المغربي أبو يوسف الملك ألفونس إلى المناطق التي يحتلها ولده، ونازل قرطبة وبها يومئذ شانصو بن ألفونس الخارج على والده، فقاتلها أياما قبل أن يعود إلى معسكره ويبعث سراياه إلى جيان ويقصد طليطلة حتى انتهى إلى حصن (مجريط) الذي كان يعنى موقعا أندلسيا صغيرا أنشأه المسلمون أواسط القرن التاسع الميلادي، وينطلق بها الاسبان مخريط MAGEIRIT.

وقد سجل التاريخ الدبلوماسي الدولي هنا حدثا فريدا من نوعه ظل وسيظل مفخرة لأبي يوسف، عبر التاريخ، وذلك أن العاهل المغربي - وقد تحسس من خلال حديثه إلى حليفه الملك ألفونس أن ملك فرنسا فيليب لوهاردي لم يقف بجانب ألفونس في محنته مع ولده -، أقول : العاهل المغربي أقدم على القيام بمساعيه الحميدة من أجل حمل ملك فرنسا على مصالحة ملك اسبانيا مؤكدا أنه بالرغم مما يوجد بينه وبين ألفونس من خلافات حول الحدود، وبالرغم أيضا من أن المغرب ليس على دين أي من ملك فرنسا وملك اسبانيا، إلا أن ما حدث، جعلنا نتدخل لصالح الشرعية وصالح السلام في أوربا ..."

وقفت على هذه الرسالة شخصيا في المتحف العسكري بباريز، وأخذت لها صورة ظللت أعتز بها باعتبارها حجة قوية على أن السلطان أبا يوسف كان يعمل من أجل بناء السلام بين الشعوب لا يراعي في ذلك اختلافا في الدين والعقيدة ولا اختلافا في الشؤون العارضة.

لقد اعتدت أن أعايد أصدقائي بإرسال بطاقة تحمل بعض المعلومات الهامة، وكان من هذه المعايدات ما ورد في هذه الرسالة التاريخية ... عبارة تخاطب ملك فرنسا بهذه الكلمات : "... فإن أصابكم ما غير خاطركم من قبل الملك المذكور أو غير خاطره من قبلكم فنحن نضمن لكم زوال ذلك حتى تعود المودة على أكمل ما تقر به العيون" ...

وقد حررت هذه الرسالة بتاريخ 20 رجب 681=24 أكتوبر 1282 على أرض استجة ECIJA التي سبق أن قلنا أنها كانت مصرعا للقائد ذونونه في الموقعة التي تحمل اسم استجة والتي حضرها العاهل أبو يوسف نفسه.

لقد سجل التاريخ الدولي بهذا الحديث الكبير ظاهرة اعتبرها الأولى من نوعها ... حيت رأينا أول محاولة لربط الصلات بين ثلاثة دول : اسبانيا – فرنسا – المغرب  بمعنى أننا وجدنا أنفسنا أمام محاولة اتفاقية متعددة الأطراف وليس بين طرفين اثنين فقط.

ولقد سجلت العلاقات الثنائية بمناسبة الاستصراخ بالمغرب، تطورات هامة لا يجوز السكوت عنها لاسيما وقد احتفظ بها الأرشيف الاسباني إلى اليوم ...

ذلك أن السلطان أبا يوسف فاتح ألفونس العاشر في شأن الرفع من مستوى العلاقات بين الطرفين وهكذا سمعنا لأول مرة عن إهدائه لألفونس العاشر زربية رفيعة منسوجة من الحرير كانت أهديت لملك المغرب من الخلافة في بغداد، الأمر الذي يعبر من جهة أخرى عن علاقات المغرب بعراق العرب والعجم ...

وإلى جانب هذه الزربية التي وقفنا على أخبارنا في المصادر القشتالية حيث نجد أن العاهل يقدم هبة نقدية تناهز مائة ألف دينار ذهب، والأكثر إثارة للانتباه هو أن العاهل استصحب معه إلى المغرب عشرات الأبقار من أجل تحسين نسل الماشية التي كان المغرب يتوفر عليها بكثرة ... 

وعاد العاهل المغربي بعد هذه الحركات الهامة إلى الجزيرة الخضراء فحل بها في شعبان حيث أقام بها إلى آخر السنة المذكورة.

وقد ظل مقيما بالجزيرة ينطلق منها بين فينة وأخرى، لتفقد المواقع وإشعار الناس بأنه هنا ... مستعينا في تلك التفقدات بأولاده وأحفاده إن اقتضى الحال، قبل أن يعود إلى فاس، آواخر شعبان حيث قضى رمضان بالعاصمة هذه السنة 682=1283.

 وكان عليه أن ينتظر السنة القابلة 683هـ 1284 ليقصد إلى قصر المجاز حيث تجمعت الحشود من المتطوعة والمرتزقة، وأجاز البحر بنفسه في غرة صفر من سنة أربع وثمانين وستمائة = 1285 ... واحتل مدينة طريف، ومنها إلى الجزيرة الخضراء حيث أقام أياما ... ثم خرج قاصدا مدينة شريس JEREZ حيث بث السرايا وتفقد المسالح التي كانت في الثغور ... 

ووصل ولي عهده من المغرب الأمير يوسف بنفير أهل المغرب في جيوش ضخمة وعساكر موفورة حيث وجدوا السلطان أبا يوسف في استقبالهم والسرور بمقدمهم ... كان هناك جسر قائم من المراكب البحرية يربط بين العدوتين ... حيث كان يشعر الروم بأن أبا يوسف هنا في شريس  JEREZ مستعينا بعيونه من اليهود والمعاهدين من النصارى يتعرفون أخبار الملك سانشو الذي كان قد خلف والده ألفونس على مملكة قشتالة.

كل يوم كانت له حركة إلى وجهة من الوجهات ... بسائط اشبيلية، لبلة NIEBLA، قرمونه CARMONA، استيجة ECIJA، وجبال الشرف AL JARAFE، وجميع بسائط ألفرونتيرا LAFRONTERA.

واحتل السلطان بمحل إقامته بالجزيرة الخضراء غرة رمضان 684 نونبر 1285 قريبا من المدينة الجديدة التي بناها والتي تحمل اسم البنية La Pena  بإزاء الجزيرة حيث كان يشرف على المناورات البحرية التي تجري أمامه بالمرسى ...

هذا ويفيد ابن خلدون أن الساكنة حملوا العاهل الاسباني الجديد شانصو على إيفاد سفارة للسلطان أبي يوسف سعيا في إبرام صلح دائم معه، حيث نجده يبعث إلى أمير المسلمين وهو بالجزيرة الخضراء وفدا كبيرا من بطارقتهم يخطبون السلم، وقد ردهم السلطان لأمر اقتضاه رأيه، حيث وجدنا أن العاهل الاسباني شانصو يجدد الرغبة مفوضا للسلطان أبي يوسف في أن يشترط ما شاء لإبرام هذا الصلح ... وهنا استجاب أمير المسلمين وجنح إلى السلم وأجابهم إلى ما سألوه واشترط عليهم ما تقبلوه من مسالمة المسلمين كافة، مغاربة وغير مغاربة والوقوف عند مرضاته من ولاء جيرانه من الملوك أو عداوتهم، ورفع الضريبة عن تجار المسلمين بدار الحرب من بلاده وترك التضريب بين ملوك المسلمين والدخول بينهم في فتنة ...

وهكذا عهد السلطان للشيخ أبي محمد عبد الحق الترجمان بالمهمة وبعثه لإحكام العقد، فسار عبد الحق الترجمان إلى اشبيلية حيث اجتمع بسانشو ووقع الاتفاق على الوفاء بالشروط المطلوبة.

وقد أوعز عبد الحق الترجمان للملك سانشو بالوفادة بنفسه على العاهل أبي يوسف لتتمكن الألفة وتستحكم العقدة ... فسأله شانصو لقي الأمير يوسف أولا ليطمئن قلبه حيث اجتمع الشخصان على فراسخ من لافرونتيررا LAFRONTERA، وباتا بمعسكر المسلمين هناك.

وارتحلا من الغد للقاء أبي يوسف حيث شهدت المدينة احتفالا كبيرا لم يشاهدوه من قبل حيث صدر الأمر بأن لا يلبس المسلمون إلا البياض 

وقد ظهر الملك سانشو في جماعته بلباس أسود ... كان مشهدا رائعا يوم الأحد 20 شعبان سنة 684 = 21 أكتوبر 1285.

وهكذا تحقق - بعد لقاء (صخرة عباد) التاريخي بالأمس – بين أبي يوسف وألفونس العاشر، تحقق لقاء قمة ثان بالمكان الذي يحمل اسم (حصن الصخرات). 

تقدم العاهل الإسباني فلقيه العاهل المغربي بأحسن مبرة وأتم كرامة يلقي بها مثله من عظماء الملل ... وما تزال هذه البقعة اليوم مركزا مقصودا للزائرين.

وقدم سانشو بين يدي أبي يوسف هدية من طرف بلاده أتحف بها السلطان وولي عهده كان فيها زوج من الخيل الوحشي المسمى بالفيل، وحمارة من حمر الوحش إلى غير ذلك من الطرف فقبلها السلطان وابنه وأضعف له المكافأة ووقع عقد السلم.

وهنا طلب السلطان أبو يوسف أن يبعث إليه العاهل الإسباني بكتب العلم التي بأيدي الروم منذ استيلائهم على المدن الأندلسية، فبعث إليه بثلاثة عشر حملا : منها جمله من مصاحف القرآن الكريم وتفاسير كابن عطية والثعلبي كما بعث كتب الحديث وشروحاتها كالتهذيب والاستذكار، ومن كتب الأصول والفروع واللغة العربية والأدب وغير ذلك.


 
     

مزيد من المعلومات
الإسم

اللقب
اتركوا رسالتكم هنا
البريد الإلكتروني
الهاتف
يرجى إدخال الرموز كما تظهر في الصورة أدناه *