المقالات


  عن خزانة جامع القرويين بفاس  
 


العرض الذي قدمه د. عبد الهادي التازي للندوة العالمية المنعقدة بفاس يوم 22-23 مايه 2007 حول : خزانة القرويين : التاريخ والواقع والآفاق.



عندما كنت بصدد اختيار موضوع أطروحتي في الستينات من القرن الماضي اقترح على أستاذي احمد مختار العبادي أن أتناول عنوان "المغرب عبر التاريخ".

عدت بعد أن تأملت اتساع الموضوع لأقول لأستاذي : ألم يكن من الأحسن أن أتناول (تاريخ فاس) ؟ فوافق على الاقتراح ... لكني بعد شهور عدت إليه مرة أخرى لأقول له : إن فاس لا تعني شيئا بدون جامع القرويين، أفلم يكن من المستحسن أن أتناول تاريخ مساحة نصف هكتار من فاس، أعني جامعة القرويين ..؟ وهنا وقع الحسم في الاختيار، وكان كتابي (تاريخ القرويين) : المسجد والجامعة الذي يقع في ثلاث مجلدات والذي صدر أخيرا في طبعة ثانية.

والمهم أن أقول اليوم إنني، وأنا أعالج التاريخ الفكري لهذا الجامع العظيم الذي يعتبر قلب المغرب النابض، إنني اكتشفت من خلال تناولي للحديث عن مكتبة القرويين أنني أمام ميزان حرارة لذلك القلب، يحمل اسم (خزانة القرويين) أو (مكتبة القرويين) التي كانت تتحكم تحكما مطلقا في سير الجامع أو تعطله عبر التاريخ الحضاري للمغرب، على ما نقرأه في الوثائق السياسية للدولة. وكما هو الشأن في كل المكتبات العالمية الكبرى فإن مكتبة القرويين إنما استمدت ثروتها من المكتبات الخاصة لبعض الرجال الذين كانوا يعرفون مدى حاجة العلماء والطلاب إلى الكتاب.

ونستحضر هنا أول مكتبة ورد النص عليها في تاريخ فاس، ويتعلق الأمر بمكتبة الأمير الإدريسي يحيى الرابع الذي ظهر أواخر القرن الثالث والذي قال عنه أبو عبيد البكري : إنه كان يتوفر على عدد من الوراقين الذين لا شغل لهم إلا نسخ الكتب ! وكان البكري يعطينا فكرة عن نموذج من نماذج المكتبات الخاصة في الفترة التي أنشئ فيها جامع القرويين الأول. 

وقد كانت كل الدول التي تعاقبت على الحكم في المغرب، كانت تقدر مدى أهمية المكتبة في سير الحركة العلمية فكانت تتابع عن كثب ما يجري في هذه المؤسسة لدرجة أننا نرى، أنها أي الدولة، كانت تحرص أحيانا على نقش قوانين استعارة الكتاب، على باب المكتبة حتى يقرأها الكل ويعرفها الجميع، وأمامنا نموذج لذلك فيما نراه إلى اليوم منقوشا على خزانة القرويين منذ عام 750 هـ أيام السلطان أبي عنان.

وقد رأينا أن السلطان الشهير أحمد المنصور الذهبي المعروف بهوايته بجلب العدد الكبير من غريب المخطوطات وباستنساخها، يأمر بداية القرن الحادي عشر بأن تجعل على باب مكتبته (الأحمدية) أربعة أقفال، توزع مفاتيحها على أربعة عدول حتى تضبط استعارة الكتاب... 

وقد اهتم السلطان المولى إسماعيل بتفقد الخزانة وأهدى إليها عددا من المخطوطات التي كان يجمع النساخ لكتابتها على نحو ما فعله السابقون وسيفعله اللاحقون ...

وهذا السلطان هو الذي اشترط على ملك اسبانيا، بعد أن استرجع منه مدينة العرائش وتوفر على مائة من الأسرى الإسبان، اشترط عليه أن يعطيه في مقدمة الخمسين أسيرا نصرانيا، خمسة ألاف كتاب على ما رددناه في موسوعتنا التاريخ الدبلوماسي للمغرب.

وقد أمر السلطان المولى إسماعيل بوضع فهارس للمخطوطات الموجودة بالمكتبة آنئذ حسب الفنون والموضوعات، ومن المهم أن نذكر أن الوثيقة الإسماعيلية تنص كذلك على قوانين الإعارة للانتفاع بالكتب، وبمطالعتها ومراجعتها وردها لمحلها بعد قضاء الغرض منها، وكان هذا أوائل ذي الحجة من عام 1115 الذي يصادف أوائل أبريل من عام 1704.

وهكذا استمر الحال أيام الملك محمد الثالث الذي قام بأعمال جليلة للمكتبة، والأمر كذلك أيام محمد الرابع الذي حرص على أن تكون المكتبة خاضعة لمحتسب المدينة!

ولا بد لي هنا من أن أذكر بالظهير والمرسوم الملكي الذي صدر في عهد السلطان المولى الحسن (الأول) وقد بلغه عن أمر(خزانة القرويين) ما بلغه ... حيث وجدناه يتوجه إلى قاضيي فاس بخطاب هام يذكرهما بما يجب عليهما من حفاظ على هذا التراث الفذ، كان القاضي الأول هو الشريف العلوي المدغري، وكان قاضي مقصورة السماط القاضي الثاني هو الشيخ حميد بناني، وقاضي مقصورة الرصيف هما من هما في الشأن المحلي.

أكد الملك الحسن للقاضيين بعد حثهما على متابعة المهملين بالأمس على ما يجب فعله اليوم من اشتراط الأهلية في الذين يستعيرون الكتاب ومن تسجيل اسمهم والإشهاد عليهم عند قيمي الخزانة، وإعلام النظار والقضاة بمن أعار الكتاب ...

وبعد كل هذا يمكن المستعبر من الكتاب بعد وصفه وعد أوراقه وتقييد تاريخ دفعه له وعلى رأس كل ستة أشهر يقوم المسؤولون بعملية استرجاع للكتب المعارة وتحاز ممن هي عنده  وترد لمكانها ... ويشترط المرسوم الملكي في القيم على الخزانة الأمانة والثقة ...

ولم ينس الملك الحسن الأول أن يضرب المثل بأمانة وثقة علال بن جلون الذي عاش على عهد جده .

وتجتاز المملكة المغربية فترة استثنائية من تاريخه تنتهي بالنزول الفرنسي بمدينة فاس، هذا النزول الذي انتهى بدوره إلى معاهدة الحماية الفرنسية المبرمة يوم 30 مارس 1912!     

فماذا عن مكتبة القرويين في هذه الأثناء ؟

يبدو أن أمر تنظيم خزانة القرويين أخذ يتحرك نحو التطيع إذا صح التعبير، وهنا وجدنا الإدارة تطلب تقريرا عن الخزانة من الشيخ عبد الحي الكتاني الذي كتب بتاريخ 20 ذي الحجة 1330=30 نونبر1912 يقول : وجدنا المكتبة في غاية الضياع والتلاشي والتفرق ووجدنا كتبا كثيرة لا توجد بالخزانة ... كثيرة جدا بحيث لا ينطبق الموجود على ما في الدفتر ولذلك عينا العدول لمعاينة الموجود ... 

وللتاريخ أشير هنا لرسالة بين أيدينا محررة بالفرنسية، مكتوبة بالخط، على بطاقة رسمية تحمل على رأسها بالحروف الفرنسية المطبوعة : استعلامات مكتبة فاس المدينة، وهي موجهة من اليونان HEIK إلى الشيخ الكتاني بتاريخ 23 يناير 1913 يخبره في الرسالة : إنه أعاد إليه المجلدين الذين أعارهما له، ويرجو أن يعيدهما إلى خزانة القرويين. 

ومن المهم أن نذكر أن كل هذه الحركات كانت تساعد الأستاذ ألفريد بيل لإعداد فهرسه عن (مكتبة القرويين) التي نرى الشيخ الكتاني رحمه الله، يقدم عنها لمحة هامة في بحثه القيم الذي قدمه لمجمع دمشق بتاريخ 19 شوال 1347 موافق 1929.

كل هذا العرض المقتضب عن مكتبة القرويين كان من أجل أن أعبر عن الخيبة التي شعرت بها وأنا أزور المكتبة للوقوف على مخطوطة ابن بطوطة بعد أن عهدت إلى أكاديمية المملكة المغربية بتحقيقها !

أذكر أن أبرز جهة خطر على بالي أن أزورها هي أم المكتبات في المغرب القرويين في فاس ليس فقط لأنها قريبة إلي، ولكن كذلك لأنها محطة الحدث، مدينة فاس التي ألقى فيها ابن بطوطة عصا تسيارة. 

كنت أتوقع أن أقف على أكثر من نسخة للرحلة بل كان همي أن أجد النسخة الأصلية التي حررها ابن جزي ! ولكني لم أعثر من نسخ الرحلة التي ألفت بأمر السلطان أبي عنان في قصر فاس، إلا على السفر الثاني من الرحلة، وهو متلاش مبتور الأواخر وعار عن وثيقة التحبيس، بل إن السفر هذا عاطل عن كل ما يوحى بأنه كان في يوم من الأيام محل اهتمام!!

وكان من المظان القوية التي كنت حريصا على الرجوع إليها هي مخلفات الخزانة الكتانية التي كانت من أغنى المكتبات بفاس، كلنا يعلم.

ولقد وجدت من هذا المتخلف السفر الثاني من الرحلة فقط، وكان مبتور الأول، لكن البتر البين في النسخة هذه هو الذي يتصل بزيارة ابن بطوطة لمملكة غرناطة، وموضوع الزيارة هذا هو الذي اهتم به المستشرق المعروف الأستاذ ليفي بروفينصال الذي طلب إليه أن يسهم في مجموع (mélanges) هنري باصي، فلم يجد أحسن من أن يقدم نص رحلة ابن بطوطة الخاصة بالأندلس مترجمة إلى الفرنسية، مغتنما الفرصة ليصحح أخطاء الأستاذين اللذين سبق لهما أن ترجما الرحلة منذ أواسط القرن التاسع عشر : ديفريميري C. Defremery، وسانكينتي Sanguinetti ...

لقد استوقفت الأستاذ بروفنصال بعض الكلمات التي لم تتبين له من قراءة الناشرين السابقين فأراد هو أن يضبطها ويحققها لا سيما وهو الخبير بالأدبيات الأندلسية :

كلمة (الماثرة) التي اتضح أنها القلهرة بمعنى (القلعة الحرة)

وكلمة البستى التي اتضح أنها السبتي ويا بعد ما بين بست وسبتة !

وكلمة التيرة التي اتضح أنها إلفيرة ELVIRA.

التجأ بروفنصال إلى صديقه الشيخ الكتاني الذي زوده بالنص الخاص بالأندلس من النسخة التي يمتلكها والتي كما نرى آلت إلى الخزانة العامة فأصبحت تحت رقم 2399 د.

وقد كان يهمني من الوقوف على المخطوطة التي حررها ابن جزي بخطه أن أعرف خطه حتى أصل للسر الذي كان وراء اختياره هو لتلخيص الرحلة ... 

وقد زادني تطلعا لمعرفة الحقيقة ما وقفت عليه في الخزانة الوطنية بباريز وما علمته من ميل بعض الملاحظين إلى ترشيح إحدى المخطوطات لتكون هي الأصلية.

لكن ما زادني حرصا لمعرفة حقيقة الأمر وقوفي شخصيا على خط الرحالة ابن بطوطة، وقوفي عليه في مخطوطة كتبها بذات يده، لا تتعلق بالرحلة إطلاقا ولكنها تتصل بالحديث الشريف، ويتعلق الأمر بـ (كتاب المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم) للإمام القرطبي دفين الإسكندرية عام 656=1258.

هنا سأترك متابعة الموضوع للذين يهمهم أمر متابعة المخطوط مكتفيا بالإحالة على ما صدر لي بعنوان : اكتشاف غير مسبوق حول رحلة ابن بطوطة .  

ولنعد بعد كل هذا الذي قلناه لنشيد مرة أخرى بمكانة مكتبة القرويين التي كانت دائما نقطة اتصال بين العلماء الذين كانوا يلوذون بحريمها ومستودعها للمناقشات والمباحثات، والتي أحرص على أن أذكر من توابعها وملحقاتها غرفة الموقتين التي كانت تزدان بالساعات المائية والأسطرلابات ...

وإني بما أزعم أنني أمتلكه من تجربة اكتسبتها وأنا أزور مختلف مكتبات العالم سواء في القارة الإفريقية أو الأوروبية أو الآسيوية أو الأمريكية كذلك، بما أمتلكه من تجربة متواضعة أستطيع القول: إن مكتبة القرويين تعتبر، في نظري، من أقدم المكتبات وأعرقها أصالة في العالم، فهي أكاديمية بكل ما تحمل كلمة الأكاديمية من معنى، كانت مرجعا في كل ما ترومه الدولة من مصادرها، ولهذا فإني أغتنم هذه الفرصة لأشيد بما قامت به وزارة الثقافة من جهد كبير من أجل أن تجعلها في متناول الباحثين والباحثات والزائرين والزائرات وإن الرجاء كل الرجاء من المشرفين على الشأن المحلي بفاس أن يحرصوا على إبرازها من بين "المزارات" الوطنية الكبرى، وأن يكون الإدلاء لها تكوينا تاريخيا يبرز مكانتها ومركزها عند الأمم فإن منها تغذى الفكر الأوروبي، ومن الكتب التي تتوفر عليها رفوفها كانت تصدر الفتاوي الخطيرة التي تضبط العلاقات بين الدول، التي تنير معالم الطريق.

علينا أن نجعل من عيون مخطوطاتها القانونية والعلمية والطبية والفلكية والموسيقية معرضا مفتوحا على الدوام أمام الراغبين ... مكتبة القرويين وجه مسفر للمغرب ...

كنت أزور في أوربا وخاصة إسبانيا وإيطاليا مكتبات لا تصل إلى عشر ما تصل إليه مكتبة القرويين الموجودة في حي الصفارين، كنت أجد المشقة في اجتياز تلك المسالك والمنعرجات لأصل إلى تلك الرفوف، ولكني كنت أحس بأن الحياة تدب في سكان تلك الجهات وهم يرون أنهم يشعرون بأنهم ما يزالون أحياء وأن الناس يتفقدونهم من شتى جهات العالم ...

لهذا فإنني أشعر بالسعادة تغمرني وأنا أرى الاحتفاء اليوم بهذه المكتبة العظيمة تستحضرون ماضيها وتستعرضون حاضرها وتستشرفون لآفاقها.

لقد كان أسلافنا يتنافسون في إثرائها وإغنائها بأثمن ما يملكون، وما به يحيون من أمهات الكتب وعيون التآليف، يقدمون ذلك نجوى بين أيديهم لنيل المكرمات وشرف المآثرات.

وقد حبب إلي أن أزف البشرى اليوم بأنني رغبت أن أكون ضمن أولئك الذين لم ينسوا أفاويق برها وإحسانها وتاقوا إلى أن يسهموا في تبصير من يأتي بعدهم فيفعل مثل فعل أسلافهم من قبلهم : "زرع السابقون فأكلنا، ونزرع نحن ليأكل اللاحقون".

لقد وفقني الله وبوفاق مستحق من أفراد أسرتي أن أهدي مكتبتي بما تحتوي من كتب يصل عددها إلى نحو من سبعة آلاف كتاب في مختلف العلوم، منها المكتوب بالعربية ومنها المكتوب بغير العربية ابتداء من أول كتاب حصلت عليه عام 1935 في جائزتي الأولى : (تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك لجلال الدين السيوطي) الذي يقع في ثلاثة أخرى إلى آخر مجموعة حصلت عليها مؤخرا بعنوان (الموسوعة الفقهية) وهو يحتوي على 45 مجلدا.

كتبها الله في الحسنات وإذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث !!



19/05/2007





 
     

مزيد من المعلومات
الإسم

اللقب
اتركوا رسالتكم هنا
البريد الإلكتروني
الهاتف
يرجى إدخال الرموز كما تظهر في الصورة أدناه *