تتمة مقال الصين بين الأمس واليوم  
 
ولقد حضرت معنا في مأدبة الغذاء أستاذة تحسن اللغة العربية جيدا، فهمت أنها حضرت لمؤانستنا أولا ولأنها ستكون رفيقتنا للنشاط الموالي في جامعة شانغهاي، كانت تتوفر على ملف ضخم يتناول التاريخ المعاصر لبلادنا! بمن فيهم أسماء عدد من الكتاب المغاربة والشعراء والمؤرخين...

ولقد كان علينا أن نتحرك في الساعة المحددة صحبة الأستاذة الفاضلة التي وردت كما  أشرت، خصيصا لمرافقتنا إلى جامعة من أعرق الجامعات في شانغهاي: جامعة الدراسات الدولية، وبالضبط إلى كلية اللغات الشرقية فيها، حيث سعدت بزيارة بعض المرافق الجامعية، بقدر ما تسمح به الظروف!

وقد كنا على موعد في الساعة الثالثة مع طلبة وطوالب الأقسام العليا للكلية: الطلبة الذين كانوا يحضرون لنيل الماستر من هذه الجامعة: (جامعة شانغهاي للدراسات الدولية)

قدمني لهذه الدورة السابعة عشرة من دورات الجامعة الأستاذ العميد السيد وانك كوانكدا WANG GUANGDDA مخاطبا الطلبة: إنه قلما تسنح الفرصة بلقاء من هذا النوع، وعلى هذا المستوى، مؤكدا بأنه على يقين من أن هذا الزميل المغربي يشعر هو كذلك بالفرحة الغامرة وهو يرى نفسه بين طلبة يعرفون عنه الكثير عن طريق الإعلام رغم بعد الدار!.

كنت معتزا بهذا اللقاء لأنه أضاف إلى طلبتي وطوالبي لائحة طويلة من أبناء الصين ممن يتكلمون بلغة مضر!! وبلثغة ما كان أوقعها!!

باختصار شديد أذكر أنني قدمت للطلبة الحاضرين خارطة المغرب، وتحدثت عن تاريخ طنجة، وترجمت لابن بطوطة... وحاولت أن ألخص لهن ولهم في كلمات وجيزة أن تاريخ الصين في العصر الوسيط لن يكون مكتوبا بطريقة شاملة إذا لم يعتمد على معلومات ابن بطوطة المغربي!! ومن ثم فإن على طلبتنا في الصين أن يتتبعوا رحلة ابن بطوطة التي تحتوي على معلومات عن الصين لا توجد في الكتب التي تناولت تاريخ الصين...!!

واقتصرت على ذكر موضوع واحد مما استأثر بذكره الرحالة المغربي، وهو أمر السفارة التي بعث بها قان الصين لسلطان الهند محمد ابن تغلق، حيث كان ابن بطوطة مقيما بدلهي كقاض يتولى الحكم في البلاد.

لقد قصدت إبراز هذا الحدث الدولي الذي كان ابن بطوطة شاهدا على العصر فيه بالرغم من إهمال المصادر الصينية والهندية له، لأنها لم تكن تعرفه، إنما كان يعرفه ابن بطوطة الذي كان يرأس السفارة الهندية إلى الصين سنة 743 الموافقة لعام 1341م.

وقد أهديت بهذه المناسبة نسخة من رحلة ابن بطوطة لمكتبة الجامعة، كما كانت مناسبة لكي أقدم للحاضرات والحاضرين تشكيلة من (حلوى) بلاد ابن بطوطة! ابتهجوا بها أيما ابتهاج وكنت مسرورا بذلك!!

وبعد هذا فتح باب المناقشة حيث ساعدتني حفيدتي اسمهان التي كانت ترافقني في هذه الرحلة، وكانت تساعدني على كتابة جرد بأسماء بعض المتدخلات والمتدخلين...

لا أكتم قرائي أنني فوجئت ببعض الأسئلة التي شعرت من خلالها أنني أمام فوج من الطلاب يعيش في قلب الوطن العربي، ومع الواقع المغربي بصفة أدق بل وفي داخل الأسرة المغربية!

ولمعلوماتكم أذكر أن النظام المتبع في الصين هو أن يحمل الطالب الذي يتكلم العربية، إلى جانب اسمه الصيني، اسما عربيا، على نحو ما يحمل الطالب الذي يعرف الفرنسية اسما فرنسيا، ويحمل الطالب الذي يتوفر على الانجليزية اسما انجليزيا الخ، ومن هنا سنسمع عن جمانة وريانة، وحميد والمعتز!!

غرابة الأسئلة وطرافتها تقتضي مني أن أشرك فيها القراء حتى يعرفوا عن مدى تغلغل الاستشراق الصيني في قضايا العروبة والإسلام، وقضايا البلاد التي تربطها بالصين علاقة...

كان من الأسئلة سؤال الباحثة (حنان):

 هل تعتقد أن كل ما كان يرويه ابن بطوطة كان صادقا فيه... ولا سيما قضية السفارتين المتبادلتين بين الصين والهند عام 1341؟

وكان من الأسئلة سؤال الباحثة (ريانة):

ماذا عن المقارنة بين معلومات ماركو بولو ومعلومات ابن بطوطة عن الصين؟

وكان من الأسئلة التي قدمتها الباحثة (جمانة):

ماذا عن الصعوبات التي واجهتك وأنت تقوم بتحقيق مخطوطات رحلة ابن بطوطة، 

وهل يوجد خلاف لافت بين تلك المخطوطات على نحو ما يوجد بالنسبة لماركو بولو؟

أما (حميد) فقد كان سؤاله يتعلق بالأمازيغ بالمغرب:

كيف يتفاهمون مع إخوانهم الآخرين؟ وسؤال هل تعرف أنت الأمازيغية؟

وكان سؤال (المعتز):

ما هي اللغة السائدة في التعامل ببلاد المغرب، هل العربية أم الفرنسية، وبماذا تنصحنا أن نتفاهم ونحن في زيارة وشيكة للمغرب؟

وكان سؤال (ناريمان):

لماذا تفضل بعض الطبقات أن تتكلم فيما بينها باللغة الأجنبية عوض لغتها القومية؟

وكان سؤال الباحثة (مفيدة) عن العادات والتقاليد المغربية فيما يتصل بالزواج، وهل هناك قوانين بالنسبة لتنظيم إنجاب الأسرة؟

وكان سؤال الباحثة (نجيبة):

نعرف أن ابن بطوطة ولد بطنجة... فأين أدركته الوفاة بعد أن انقطعت أخباره في أعقاب موت السلطان أبي عنان، وهل ترك له ذرية في البلاد التي زارها؟

أما الباحثة (صالحة) فقد سألت:

هل ما إذا المغاربة أنفسهم واعين بمركز ابن بطوطة ومكانته في بلادهم، وفي خارج بلادهم وما هو الدليل عندك على هذا الوعي؟

وكان في الأسئلة ما تناول الأقاليم الجنوبية للمغرب حيث أسلمنا السؤال لموضوع التعامل الدولي بالأمس مع المنطقة، ولمن كانت تتوجه الدول في خطاباتها؟

إلى آخر الأسئلة التي طالت...

 وعرفت من خلال النقاش أن لبعض هؤلاء الطلبة رسائل يهتمون بها لإعداد بحوثهم للجامعة.

ولقد صفقوا جميعا عندما كان السيد العميد وانك   Wangيسلم لي شهادة زمالة فخرية موقعة من نائب رئيس المعهد سالف الذكر السيد شين دونك زياكو  Chen Dongxiag  تحمل تاريخ 13 أكتوبر 2010، كما لاحظت فضول بعضهم وأنا أحرر كلمتي في السجل الذهبي للجامعة. 

وكان مما لفت نظرنا أن هذا الفوج من الطلبة والطالبات الذي كان يملأ قاعة المحاضرات انتشر بعد التقاط الصور التذكارية، وقصد الدراجات الهوائية التي يكثر استعمالها بين الساكنة هناك، إن الأرض منبسطة وتساعد على هذا النوع من التحرك...

بعد هذا النشاط المكثف لهذا اليوم الأربعاء عدنا إلى المدينة شانغهاي حيث كان من المقرر أن نتناول العشاء في مطعم عتيق يقصد من لدن الذين يهتمون بالتاريخ والآثار!!

إنه البناية القديمة للقنصلية البريطانية التي تحمل اسم (يونكفوس إيليت)

(Yongfos- Elite) : عبارة عن فيلا فاخرة تجمع بين ملامح الماضي ومباهج الحاضر، أثثت جنباتها برسوم الصين العتيقة وأنت تعيش بين مباني من تصميم أوروبي، مصابيح خافتة تريح أعصابك وأنت تعيش على مقربة من ضجيج شانغهاي، وأنت تعيش مع مطبخها العتيق بتنوعاته وأشكاله، وبمذاق صيني يجمع بين أنواع الطعام على نحو ما قلته ونحن في الجامعة، كل مظاهر الراحة هنا...  اطلب ما تشاء تجده أمامك في أرقى تقديم وأبهاه وأحلاه... 24 صفحة من الورق السميك الرفيع تلخص لك المعلومات المتعلقة بهذا المبنى العتيق الذي كان في يوم من الأيام إقامة دبلوماسية...!

ونحن في حديث مع السيدة المحترمة التي ترافقنا ذكرت لها فيما ذكرت عن قطعتين صغيرتين توجدان في نهاية ظهر الديك، يتهاداهما الأصدقاء، تحملان في شعرنا الملحون وخاصة عند أهل وزان اسم (الغريمة) المعروفة باسم: (Sot L’y-Laisse) عند الفرنسيين، فطلبت السيدة نوعا من السمك يحمل اسم كويو (Qui yo) يحتوي على اللوزتين اللتين يتهاداهما أهل الصين كذلك من هذا السمك! لعل ثقافة الطعام لا تختلف بين بني آدم!!

أمضينا في هذا العشاء وقتا متسعا نتسلى فيه برؤية السواقي التي تسبح فيها الأسماك الذهبية تتجول بين الأحواض التي تؤثث الحديقة، وكنا نستأنس بتلك العوالم التي تقصد هذه الزوايا، كانت تلك العوالم تختلف سحنة ولغة، من الذين يرومون هذه الأماكن للراحة والاستجمام...

وكان صباح يوم الخميس الموالي 14/10/2010 مخصصا لزيارة ما يسمى في البرنامج (مقبرة الآلهة)، وكذا لزيارة الحديقة الشهيرة باسم يوان (Yuyan)  وهي تحفة عالمية رائعة استعصى علي  وصفها، كانت الأمطار تحول دون التجوال الكامل لا سيما ونحن مشغولون بالكرسي المتحرك الذي يمكن الاستعانة به حينا والاستغناء عنه أحيانا أخرى بسبب الجسور الحجرية التي تربط بين جهة وأخرى!! 

وقد كان في برنامج الجولة تذوق "الشاي الصيني" في ذلك السوق الأنيق الذي تسمع فيه وترى أيضا وتشرب كذلك ما يوحي إليك باقتناء عينات الأكياس لإرضاء الناس!! لا سيما ونحن نعيش يوميا في المغرب مع المشروب الوطني: الشاي، ومع "الصينية" التي تزينها الأكواب إلى جانب الأواني الفضية التي تزدان بها أسواق الصفارين في القواعد المغربية!

كان تذوقنا لأنواع الشاي أيضا يحتاج لاحتفالية خاصة تقتضي منك أن تأخذ مقعدك في المتجر حيث تقوم سيدة أمامك باستعراض أنواع الشاي مستعينة في ذلك بأباريق ساخنة وأكواب خاصة في مختلف الأحجام تشجعك من خلال ما يظهر من ألوانها على تفهم الدرس الذي يلقى عليك!

وأنت بين هذا وذاك تتناول من هذا النوع أو ذاك مستمتعا بما يقدم إليك من شروح علمية، بما فيها  الفوائد الطبية حيث ينتهي كل ذلك باقتناء ما يقع عليه الاختيار، وبما تمني النفس بتقديمه لضيوفك وأنت في بيتك بين أهلك وذويك!  

وبسبب استغراقنا في الوقوف عند هذه المواقع الروائع ضيعنا موعدنا مع مطعم Lubolong الذي كان أبرع ما راعني فيه عند مدخله، طريقة حوار السيدة المشرفة على إجلاس الزبناء مع السيدة المرافقة، طريقة الكلام وطريقة التلقي التي كانت بعيدة كل البعد عن الطريقة التي نتحاور بها نحن في أحاديثنا!

وتناولنا غذاءنا في مطعم مجاور تمكنت المرافقة النشيطة من الحجز فيه بواسطة هاتفها المتحرك... وهكذا وجدنا أنفسنا مرة أخرى مع مائدة مستديرة لكن الشوكة عوضت العود الذي ظل مستعصيا علينا!!.

ومن هذا المطعم كانت رحلتنا إلى (متحف الحرير) الواقع جنوب يانكطسي (Yangtse) حيث استمعنا من المشرفة إلى تاريخ دودة القز ورأينا بالعين صورها حية مع تمار التوت، إلى أن تعطي ما أغنى الله به الصين مما أصبح معروفا بالحرير، على نحو ما أمتعنا به المسعودي في موسوعته مروج الذهب سالفة الذكر...

هذا الحرير الذي كثر في الصين حتى قال عنه ابن بطوطة:

والحرير عندهم كثير جدا لأن الدود تتعلق بالثمار وتأكل منها فلا تحتاج لكثير مؤنة، ولذلك كثر، وهو لباس الفقراء والمساكين بها! ولولا التجار لما كانت له قيمة، ويباع الثوب الواحد من القطن عندهم بالأثواب الكثيرة من الحرير

كان لأحاديث السيدات التواجر من سعة الخاطر والصبر الجميل، ما يحمل الزائر على التمتع بالتبضع! والتفكير في الهدايا لمن يحفه المجلس من صاحبة وابنة وحفيدة ولبيطة!!

لقد طالت زيارتنا لمتحف الحرير مما جعلنا نعتذر عن مأدبة العشاء ونكتفي بما يختزنه "البار" في الغرفة من مكسرات ومقبلات...

وقد كان يوم الجمعة موعدا للتحليق إلى العاصمة (بيكين) على الخطوط الجوية الصينية من المطار الداخلي هونكجياو(Hongjiao) الذي كان هو المطار الدولي بالأمس!

تعتبر بيكين المدينة الثالثة من الناحية الاقتصادية  بعد شانغهاي، وهي المدينة التي لها أسماء عديدة كما كان يفيدنا زميلنا في المؤتمر العالمي للأسماء الجغرافية.

ويبتدئ تاريخ بيكين من عام 1115م عندما جعل سكان الشمال (Jin)   من بيكين عاصمة لهم وأعطوها اسم Zhongdo  قبل أن تحمل اسما آخر هو دادو Dado.

وحوالي سنة 1215م قام جنكيز خان بإحراق دادو، وفي سنة 1264 قام حفيده جنكيز خان بإعادة المدينة وأعطاها اسم خان بالق  Khan Balif وهو الاسم الذي نجده في رحلة ابن بطوطة...

وفي سنة 1368 استولى المينك Ming على خان بالق حيث أخذت المدينة اسم Beiping .

وفي القرن الخامس عشر قام يونكل Yongl  الإمبراطور الثالث في هذه الدولة ببناء معلمتين عظيمتين: "القرية المحرمة" التي هي القصر الإمبراطوري الذي يغطي 720000 متر مربع ويحتوي على 8704 قطعة، وهناك قصر الصيف الذي يحتوي على حدائق ومرافق...

وفي سنة 1938 أصبحت المدينة جزءا من إمبراطورية اليابان...

إن كل شيء كان على ما يرام عند أهل الصين، وجدنا في مطار بيكين من يستقبلنا: السيد لي يان (Li Yan) فإلى فندق حيات :Hyatt فندق ضخم، وعلى كل منعرج إنسان أو إنسانة تساعدك بأي لسان تريد، لسان شكسبير أو لسان موليير أو بلسان مضر إذا أردت...!! وفي وقت سريع، كانت خدمة رائعة ومتقنة...

كنت على موعد مع الأستاذ البروفيسور لي قوانغبين الذي كان قام بترجمة تحقيقي لرحلة ابن بطوطة إلى الصينية في ألف ورقة من الحجم الكبير... حيث أمسى من الممكن أن تدخل الرحلة إلى كل بيت في الصين التي تحتضن اليوم – مليارا وثلاثمائة  مليون نسمة – كل هؤلاء أصبحوا يقرأون ما كتبه ابن بطوطة الإفريقي عن بلادهم في آسيا!

لقد كان دليلنا يعتزم أخذنا إلى برنامج ليلي في (الأوبرا) لكن استغراقي في الحديث مع البروفيسور ومع الأستاذ عمر ممثل وكالة أنباء المغرب العربي حال دون ذلك...

 ومع ذلك لم نحرم من زيارة مكان هام عشنا مع ذكره قبل سنتين: أولمبياد عام 2008 زيارة تلك المواقع: سطاد عش الطائر، المركز الوطني للسباحة... هذه الألعاب التي كانت أصدق رسالة وجهتها الصين للعالم كله تعبر بالمكشوف عن قدرة الصين على أن تفعل ما تريد فعله!!

وقد كان موعدنا صباح السبت مع برنامج في غاية من الاكتظاظ لكن دليلنا كان يتوفر على إرادة قوية لتنفيذه بالحرف!

لقد كان علينا أن نزور متحف القصر الإمبراطوري الذي كنت زرته عام 1988 من القرن الماضي... لكن هل إن الانطباع عن هذه الزيارة كان على نحو الزيارة التي تمت قبل نحو من ربع قرن؟

لقد كانت الجماهير الحاشدة التي تتوالى على زيارة هذه المعالم تفوق العد والحصر، وكان ذلك عندي خير تعبير لشعور جهات الدنيا بأن هناك صينا جديدة يجب أن تزار! ويجب أن تعرف! وكنت فضوليا،على العادة، أسأل الزائرين عن وردهم وصدرهم، فأجد الناس من كل حدب وصوب، ومن مختلف درجات السن، أكثر من هذا استسلام الزائرين لتنظيم المشرفين وتوفير وسائل الراحة لهم...

لقد تعاظم أعداد الزوار من سائر الجهات القريبة والمجاورة لبيكين، من سائر القوميات التي، تبلغ كلنا، يعلم 55 قومية تتوفر عليها جمهورية الصين، من هؤلاء وأولئك من يحملون معهم لوافت ورايات حتى لا يضيعوا! هذا إلى السائحين من اليابانيين والكوريين والمنغوليين...

تموج الممرات بهؤلاء الزوار الذين يؤدون واجب الزيارة، وينتظمون في أفواج يسمعون شروح الأدلة عما يشهدونه من معالم أصبحت تحمل في الغالب ترجمة بالانجليزية لكل ما يعرض...

وقد كان من برنامجنا أن نقوم بزيارة مسجد بيكين الأعظم الذي يقع في شارع نيوجيه الذي كان عند زيارتنا له قبل أكثر من عقدين في حالة تصليح وترميم فلم يكن مدرجا ضمن المشاهد، أما اليوم فإن المسجد مفتوح أمام الزوار...

وقد كان من حسن حظي أن أجده اليوم مبرمجا ضمن المزارات وأن أقوم بتحيته والتعرف على سدنته المشرفين عليه الذين استقبلونا استقبالا حميميا... والمسجد على حال من نظافة وترتيب جديرين بالتنويه، ولا سيما ما يشتمل عليه من مصاحف في مختلف الأحجام والأشكال: ما يعبر عن أن هذا المسجد يعتبر زاوية من زوايا التراث الإسلامي في العاصمة الصينية، علاوة على أزيد من ثلاثين ألف مسجد منتشر في أنحاء الصين...

ومن المهم جدا أن نذكر هنا أن (مسجد نيوجيه) هذا ورد ذكره في بعض التآليف المهتمة بتاريخ بيكين، ذكروه مقترنا باسم شخصية مغربية تيمنوا بها وكان لها شأن جد هام في تاريخ الصين، هذه الشخصية تحمل اسم (قوام الدين السبتي) الذي ورد على البلاد الصينية في العصر الوسيط، والتقى بالرحالة الشهير ابن بطوطة في مدينة (قنجنفو) وهو الذي رافقه عند مغادرة المدينة في اتجاه عاصمة القان... 

يعتبر (مسجد نيوجيه) مسجدا عتيقا في بيكين بتاريخه الطويل وبنائه القديم فهو إذن من المساجد الشهيرة في العالم أيضا، التي ينبغي أن نتفقدها... سدنته يحفظون اسم ابن بطوطة ويرددونه على نحو ما يرددون اسم شهر الصيام!

لقد بني المسجد قديما حسب ما قلنا، وقد عرف عمليات توسيع بحيث أصبح يغطي مساحة ستة آلاف ميتر مربع، تناولت عملية التوسيع قاعة الصلاة، وبناء منارة لرفع الآذان ومراقبة الهلال، كذلك بناء بيوت للوضوء، إلى جانب قسم خاص بالسيدات، ويقوم المسجد إلى جانب الصلاة بدور تثقيفي في العاصمة الصينية، تلقين المؤمنين مبادئ دينهم، وإعطاء الفتوى في بعض القضايا، وعقود الزواج، ومراسم الجنائز، ومصالحة الخصوم والمحاضرات وسائر النشاطات الاجتماعية.

وتوجد بضاحية المسجد بعض القبور لبعض الأئمة الذين كانوا يمارسون الإمامة بالناس منذ عهد يوان Yuan 679-770ھ = 1271-1368م وهو العهد الذي شهد زيارة الرحالة المغربي لبلاد الصين حيث اجتمع بقوام الدين كما أسلفنا...

 ومن ضمن محفوظات المسجد تقول الوثيقة التي تحتفظ بها أمانة المسجد، لوحة يرجع تاريخها لسنة 1105ھ 1694م، كذلك يحتفظ المسجد بقطع خزفية كانت تستعمل كمباخر لتجمير العود القماري المستعمل في البخور... ويقوم المسجد إلى اليوم بوظيفته حيث صادفنا وقت الزوال هناك ووجدنا طائفة من المسلمين والمسلمات حاضرين يقومون بفريضة الوضوء استعدادا للصلاة، هناك رحب بنا كبير السدنة الذي أهديناه بعض الحلويات المغربية...

وقد كانت المفاجأة التي بوغتنا بها من لدن أحد السدنة حديثهم عن الزيارة التي قام بها لمسجدهم الملك محمد السادس عام 2002... والتي كان أحضر فيها نسخا من رحلة ابن بطوطة مما نشرته أكاديمية المملكة المغربية، أحضرها ليؤثث بها رفوف الخزانة الوطنية في العاصمة الصينية...

وبعد هذه الزيارة للمسجد كان موعدنا في الغذاء بمطعم (قنجود) المعروف بتقديم طبق معروف شهير في الصين يحمل اسم البط المجمر (Canard laqué) 

حقيقة كانت "احتفالية" طريفة أخرى استمتعنا بها عندما وقف الطهاة ببذلهم البيضاء الناصعة يجعلون على أنوفهم غشاوات، وفي أيديهم قفازات شفافة ليضعوا البطة – بعد سلخها طبعا – بين أعواد ملتهبة ... يراقبونها حتى لا يبقى منها جانب دون أن يصله نصيبه من النار...

لكن ما هو ألطف عندما يحضر الفريق الثلاثي هذا الصحن، وهو - أي الفريق - على حال من الاستعداد للخدمة: أنوفهم  - كما قلنا - مغطاة وأيديهم مغلفة، وإنما تتحرك السكاكين بخفة وفن لتوزيع أطراف البطة المجمرة التي يتعمدون تقديمها، ورغم ما في مذاقها من "زهومة" لا تقبلها بعض الأذواق، لكن القوم بطريقتهم الذكية، يقدمون معها توابل متنوعة على صحون صغيرة، ذات مذاقات لذيذة وألوان متعددة، كل هذا التقديم يضاعف من شهوتك لتناول البطة المجمرة التي لا نعيرها في المغرب ولا غير المغرب كل هذه "الاحتفالية" التي جعلت منها صحنا معروفا على الصعيد العالمي...!

وقد استحضرت وأنا أتذوق "زهومة" البطة ما يقوم به بعض الأوروبيين وهم يتعمدون ترك صيدهم حتى يكسب طعما متغيرا عن طعم اللحم الطري الذي تفضله أذواقنا نحن، على اللحم المتغير الرائحة... ولكل ذوقه الذي قد يختلف عن الآخر، وبين أيدينا مثل "الأجبان" التي تختلف نكهتها ويتعدد عشاقها ... 

مهما يكن فإني أعترف أن "البطة المجمرة" خلقت فينا رغبة لتجربة إعدادها في البيت بالرغم مما تحمله من زهومة!!... وقد لفت نظري أن بعض الزبائن يطلبون أكياسا ليجعلوا فيها بقية البطة مما لم يقدروا على تناوله في المطعم... يصحبون الأكياس معهم انتظارا لتجدد الرغبة في العودة إلى البطة المجمرة!!

وبعد زيارة لإقامة  الأمير كونك (Gong) قمنا بجولة سياحية ممتعة في أزقة بيكين الضيقة القديمة على متن عربة إنما تسع لشخصين  لا ثالث لهما! تجرها دراجة هوائية 

(Cyclo pouss) يسوقها صاحبها، كان الله في عونه! لقد ذكرني هذا المشهد في حديث ابن بطوطة عن ظاهرة ركوب الناس على رقاب العبيد!

وبعد تناول العشاء حضرنا حفلة اختتام المهرجان الدولي الثامن للفنون الفولكلورية في المسرح الوطني للصين الذي كنت أعتقد أنه في حجم المسارح التي تعودنا على رؤيتها، 

لكني فوجئت بالمساحات الشاسعة التي يقع فيها هذا المسرح الهائل والتي كان "الكرسي المتحرك" وسيلتي الوحيدة للوصول إلى مكان الفرجة...! 

كانت عروضا شيقة جدا من مختلف جهات الدنيا... وعلى مقدمتها الصين ودول الجوار، والفرقة القومية المصرية الرائعة التي كانت تقابل بتصفيقات من الجماهير الحاضرة...


 
     

مزيد من المعلومات
الإسم

اللقب
اتركوا رسالتكم هنا
البريد الإلكتروني
الهاتف
يرجى إدخال الرموز كما تظهر في الصورة أدناه *