المال  
 

العرض الذي أعده د. عبد الهادي التازي عضو أكاديمية المملكة المغربية للندوة العلمية التي نظمتها الأكاديمية بمقرها في مدينة الرباط شارع محمد السادس حول: تخليق الحياة العامة في المغرب، خلال الأيام 21-22-23 محرم 1435ﻫ 25-26-27 نونبر 2013

أقترح عليكم، في البداية، أن تقوموا برحلةٍ معي إلى عالم الشّعر في العصر الجاهلي لنستعرض قصيدةً لم يلتفت إليها الدكتور طه حسين عند حديثه عن الشعر الجاهلي...  القصيدة حوار مع المال، وهي من أطرف ما يذكر عندما نستحضر تخليق الحياة العامة... القصيدة للشاعر أبي عمرو: أُحَيْحَة ابن الجُلاح بن الحريش الأوسي المتوفى سنة 130 قبل الهجرة، الموافق عام سبعة وتسعين وأربعمائة شمسية، 497. قال عنه الميداني: إنه سيد يثرب، وكان له بُرج فيها يحمل اسم "المستظَل" كما كان له (برج) آخر في ظاهر المدينة (يثرب) سماه "الضّحيان"، وله مزارع وبساتين ومال وفير... 

ويذكر البغدادي أن أحَيْحَة كان سيد الأوس في الجاهلية وكان مُرابيا، يعني (يقرض ماله بالربا).
 وفي كتاب الأغاني للأصفهاني أنه أُحُيْحَة بن الجُلاح بن الحَرِيش بن جَحْجَبي بن كُلْفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وأنه يكنى أبا عمرو، وله ديوان شعر... 
وفي خزانة الأدب للبغدادي أن سَلْمى بنتَ عمرو العلوية كانت زوجةً لأُحَيْحَة، وأخذها بعده هاشم بن عبد مناف فولدت له عبد المطلب...
 كان في جملة ما احتوى عليه (ديوان أُحَيْحَة) قصيدةٌ على قافية الفاء، قصيدة طريفة مُطرفة تدور حول الحِوار مع المال الذي– كلّنا يعلم – هو قوام الأعمال: مَناقبها ومَثالبها، رَزَاياها ومَزاياها!!

هذه القصيدة تتضمن بيتاً طالما كنت أسمعه من أحد زملائنا الرَّاحلين من أعضاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وهم يتبارون ضدّ معارضيهم من الذين ينتصرون لآرائهم!

نعم أذكر بعض تلك  المجالسِ  العلمية الحية التي كان صديقنا العالم الجيولوجي الدكتور محمد يوسف حسن الذي عوّض الدكتور طه حسين في كرسيّه، كان يُهدد بمقاطعة بعض الجلسات ويهم بمغادرة القاعة الخاصة بالمناقشة السرية.

كان يردد دائماً بيتاً من ديوان أُحَيْحَة بن الجُلاح، لفت نظري، وكان وراء بحثي عن القصيدة في اللإِنترنِيت...

القصيدة تخاطب المالَ المارقَ الذي يكون في استطاعته أن يقلب الأوضاع ويغير الحقائق، يخاطبه وهو العارف الخبير بما يمكن أن يقوم به المال! يخاطبه قائلاً: 

يَا مَالُ، والسيد المعمَّمُ قد       * يُبطره بعضُ رأيه السٌّرِفُ

خالفتَ في الرأي كلَّ ذي فَخَر * والحقُّ – يا مالُ  - غيرُ ما تَصف!

لا يرفع العبدَ فوق سنَّتِه * والحقُّ يُوفَى بِهِ  ويٌعْتَرف!

نحنُ بما عندنا، وأنتَ بما * عندك راضٍ والرأيُ مختلف!!

قصيدةُ أُحيحة ابن الجُلاح تعتبر أقدم نص عربي جاهلي يقع بين أيدينا مما تميز بالالتفات إلى مخاطبة "المال" ودوره في تخليق  أو تمْريق أخلاق المجتمعات!!.

وقد رأينا أُحَيْحَة، ولو أنه كان في صدر المُرابيين، إلا أنه كان من ناحيةٍ أخرى لا يوافق المالَ على السير دون حُدود! ولهذا قال بيته الذي يظلُّ شعاراً للذين يتمسكون بضبط سلوكهم ويقتنعون بأفكارهم، هذا البيت يردده المحتجون باستمرار:

نحنُ بما عندنا، وأنتَ بما * عندك راضٍ والرأيُ مختلف!

وعندما نلقي نظرةً على فلسفة المال في الإسلام فسنجد دُنيا من النظريات والآراء حول ضرورة الاهتمام بترشيد استعمال هذه المادة التي تظل إكسيرَ الحياة، الاهتمام بها تبذيراً وإقتاراً استثماراً واحتكاراً...

وكلّنا يعرف أن الأسرة والعائلة أسمى وأهمُّ مؤسسة في المجتمعات الإنسانية على الإطلاق... وقد رأينا أن "التنزيل" الكريم يربط نجاحَها وفشلَها بالمال... ويشترط على الذين يحاولون أن يبنوا بيتهم أن يفكروا أولاً في توفير المال....!!

ولا بد أن أذكّر في هذا الصدد بما روتْه كتب النحو وهي تتحدث في (باب حروف العطف) على أن حرف (الواو) يُفيد الترتيب، على نحو حرف (ثم).

ذكروا أن الأصمعي وقف على سائلٍ بباب مسجدٍ يحمل على كتفيه رضيعاً يصرخ بكاءً، والسائل يقول: يا من يعامل من قدَّم ما أخره الله؟
فواساه الأصمعي ببعضِ المال وسأله: أيُّ شيء يا سيدي قدمتَه وقد أخره الله؟ فأجابه السائل: لقد قال الله تعالى في "التنزيل": المال والبنون، أي التفكير في الحصول على المال يسبق التفكير في كسب البنين، ولكني عكستُ فبحثت عن الزوجة قبل أن يكون لي مال، وها أنت ترى من حالي ما ترى

ولْنشر بعد هذا إلى أطول آيةٍ في القرآن الكريم تُعنى بحفظ المال ورعايته وضبطه وتوثيقه عند كتابة الدَّين والاستشهاد بالشهود وأخذ الرهان، هذه الآية العظيمة تعتبر الركنَ الأساس الذي حمل الكثيرَ من المسلمين في آسيا وإفريقيا وغيرهما على اعتناق الإسلام كدينٍ يضبط شؤون (المال) الذي يصل بالإنسان أحياناً إلى أعلى درجات الكمال، لكنه أحيانا يَهْوَى به إلى أسفل الدركات!!.

من هنا كنا نلاحظ رصد الفلاسفة لتحرك المال وكيف أن بعض البشر يضعف أمام وَهَج الدرهم وجبروته فلا يلبث أن يفقد حواسَّه وأحاسِيسَه، بل ويُغْري الآخرين بالاستسلام!

هناك قصة رائعة رواها أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشَياري في كتابه "الوزراء والكتاب" الذي يعتبر من أهم المصادر في السياسة...
لما قَدِم الحَجاج العراق ثقُل أمره على أهل البلاد فاجتمع الدهاقنة إلى جميل بن بُصْبُهْري، وكان حازماً مقدما، فشكوا إليه ما يتخوفون من شر الحَجاج، فقال لهم: ما أحسن حالَكم إذا لم تُبتلوا معه بكاتبٍ منكم...! وضرب لهم جميل المثلَ المشهور: "إن قادوما ليس فيه عود، أُلْقِيَ بين شجر" فقال بعض الشجر لبعض: ما ألقى هذا القادوم ها هنا لخير! فقالت شجرةٌ عادية (يعني قديمة): إن لم يدخل في إِستِ هذا القادوم عُودٌ منكن فلا تخفنه"!

إن المال كان عندي مثل القادوم الذي يبحث عن عود...! يحل بالمجتمعات البشرية فإن صغرت نفس أحدٍ من أفراد المجتمع وقبلت أن تدخل في إِسْت القادوم فسيجرؤ القادوم على أن يُخضع سائر أعواد الغاب ليستعين بها على اجتِثَاثِ كل الأشجار التي تقوم عليها الغابة...!

المال إذن هو الذي يجد في أبناء البشر الاستعدادَ لسلوكِ أيّ طريق ولو كانت طريق الخزي وطريق العار لهذا اخترت أن ألخص تدخلي في هذا العنوان: "المال"!

ولا بد أن لا ننسى مع هذا بعض السَّرديات التي تتحمل تَبِعَتَها في حمل الناس على شراء الضمائر، وأريد أن أذكّر بما قاله عبد الله بن جعفر الطالبي المتوفى سنة 80ﻫ  700م 

إذا كنتَ في حاجةٍ مُرسِلاً * وأنت بها كَلفٌ مغرمُ

فأرسلْ حكيماً ولا تُوصه * وذاك الحكيمُ هو الدِّرهم!!

سأكون صريحا في القول: إنني وأنا أكتب هذا العرض – لم أستعن بمصدر من المصادر التي نرجع إليها في مثل هذه الحالات من أمثال "مفرج الكروب" أو "تنبيه الغافلين"! وإنما كنت أتتبع طَوال هذه الأيام ما تظهر به علينا "الويكيليكس"  Wikileaks في موقعها الإِلكتروني! ما تبثه من أخبار وأنباء عما يمكن أن يقوم به المال من أعمال خَراب تفوق كل التصورات... وهي، أي الويكيليكس، تزود أخبارَها بالأرقام الناطقة وبالصور الشاهدة التي تجمع بين الفاعل والمفعول به!... وليس في بلد دون بلد، في العالم أجمع من أقصاه إلى أقضاء... كان المال يُعْمي الأبصار فلا يعود هناك حاسة تبصر الصور، كان المال يُصم الآذان فلا تعود هناك آذان تعي ما يتردد على اللسان!

ما نقرأه يومياً جعلنا نؤمن بأن المال أمسى لا يميز بين من يمكث في أقدس موقع أو يلزم مجالس الشيطان...!!

قافلةُ الفساد ماضية في طريقها غير عابئة بالمبادئ الأخلاقية ولا بالقيم الإنسانية!.

كان يَكفيني أن أقف على الأخبار اليومية لأرى ما يُرْهِب ويُرْعِب ويُرْبِك مما كان وراءه فقط "المال" 

طنان اثنان من الكوكايين عَمِيت عنهما الأعين في ميناء لتقع عليهما أعين أخرى في ميناء الضفة الأخرى! والسبب في العَمَى أولاً المال والسبب في الابصار ثانية المال !!

دول تبيع جنسيتَها للآخرين مقابل المال!! دول تنسى تعهداتِها بالأمس لتتقمص مواقف أخرى!!

عدوان ضد المؤسسات العلمية والمراكز التجارية كان وراءه المال وليس غير المال ... إذن المال هو ما يجب أن نُسائله على نحو ما فعل أُحَيْحَة قبل نحو من ألف وخمسمائة وثلاثة وعشرين عاماً...! 

نحن بما عندنا، وأنت بما * عندك راضٍ والرأي مختلف!

عشنا بداية السبعينات من القرن الماضي، فسمعنا عن غضبةٍ ملكيةٍ شديدة من الحسن الثاني على أصحاب بعض الملفات الحارقة التي ضربت في العمق مصالحَ البلاد وأساءت إلى المواطن المغربي وخاصة ما يتصل بالفساد المالي... حيث علمنا عن اجتماعٍ ترأسه العاهل آنذاك وحضره وزير العدل وبعض القضاة... وسمعنا عن إنشاء ما سُمي وقتها (بمحكمة العدل الخاصة) التي كانت تعني محاكمة المال ومحاكمة المسؤولين عن نهب المال العام!!...

ونعيش اليوم في عصر الملك محمد السادس مع محنة خُلُقِيّةٍ لا يقتصر أمرها على تخليق الحياة العامة بالمغرب، ولكن يتجاوزها إلى محيط المغرب الكبير، المغرب العربي.

المحنة أو المأساة التي تعاني منها منطقة المغرب العربي بسبب الرُّشَى الضخمة التي تقدمها بعض الجهات بسخاء إلى بعض الموظفين في منظماتٍ ومؤسساتٍ من أجل إفساد عمل المغرب الشريف في مناطقه الجنوبية التي شهدتْ له بها روابط التاريخ.

كنت من شاهدي العيان الذين حضروا محكمة لاهاي في يوليه سنة 1975 كعضو مستشار ADHOC وتتبعت سائر الجلسات واستمعت إلى مختلف المرافعات، حيث انتهت تلك الأعمال إلى القرار الشهير الذي أصدرته المحكمة.

وكان جل الناس مقتنعين بأن المنطق انتصر... لكن اليوم نسمع بفضيحة التآمر على الحقيقة بما أعلنه خطاب المسيرة الخضراء بمناسبة الذكرى الثامنة والثلاثين.

إن الفضيحة التي كشف عنها الخطاب الملكي مما يتصل بأمر التَّخليق لا ينبغي أن نمر عليها مرَّ الكرام، بل يجب أن نحسس بها أبناءنا وأصدقاءنا، ونقوم بالكشف الكامل لكل تلك الأعيب التي تحول دون بناء المغرب العربي.

يبقى علي الجواب عن السؤال الذي يؤرّق المنشغلين بهمّ تخليق الحياة العامة، كَمْ يكفي من الوقت لالتحاقنا بركب الأمم المتحضرة التي أصبحت نموذجاً للتربية وحسن السلوك؟

سأختصر الجواب في كلمات قليلة، إن القضاء على هذه الآفة لن يكون غدا ولن يكون في السنة المقبلة ولكنه رهين بالسنوات الطوال التي تنتظرنا...

هناك ثلاث قضايا يجب أن نهتم بها لحسم أوجاعنا حول هذا الموضوع:

لا زجر يكفي لتطويق الآفة، ولا وعظ ينفع في إحياء الضمائر.

هناك الحلول الثلاثة:

أولها: القضاء على الفقر إذْ لا يعقل أن نخاطب الفقير الذي لا يملك قوت يومه، ويعيش دون ماء أحيانا، ودون كهرباء، لا يمكن أن نطلب إليه تقوى الله ونحن نعرف أن الحكمة تقول: (كادَ الفقرُ أن يكون كفراً)!

وهناك الحل الثاني: القضاء على الأمية، التي تبقى عاراً في جبيننا، والتي، دون القضاء عليها، لا نمتلك الآليات الزَّجرية التي تمكننا من مخاطبة الأمياتِ والأميين.

أما الحل الثالث الذي تطرب له المثاني والمثالث فهو حِصار المفسدين الذين يعتقدون أن المال على كل شيء قدير، ضَرْبُ النطاق القوي عليهم وفضحهم حتى لا يلعبوا بذمم الضعفاء والمغفلين.

سأذكر لكم حادثةً وقعت معي في جامعة لايبسِيش (ليبسك) بألمانيا على مقربةٍ من برلين معروفةٍ بمكتبتها الشهيرة...

زرت المكتبة بعد الإجراءات الضرورية، لأبحث عن رحلة مخطوطة لابن الطيب الشرقي إنما توجد هناك، كان هذا في شهر غشت 2002، بمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي الثامن التابع للأمم المتحدة حول الأسماء الجغرافية...

قضيتُ يومي كله مع المخطوطة بمساعدة موظف لم أنس صَبره وتحمله، ظل يساعدني طَوال اليوم بعناية كبيرة فائقة إلى أن حصلت على المقصود...

وعندما اقتربت نهاية الزيارة خطر ببالي أن أهديه محفظةً جميلةً مذهبة من صنع فاس كتذكار لهذه الزيارة المتميزة المفيدة...

وكنت أترقب منه أن يُسمعني كلمةَ شكرٍ تتناسب والمعاملةَ اللطيفة التي عاملني بها... لكن الرجل تغير لونه واحمر وجهه... واعتذر بأسلوب غير مناسب بأنه لم يقم بعمله من أجل هذا، وأخجلني حقا! وعبثاً حاولت أن أعتذر له وأُفْهِمه أن الأمر لا يعدو أن يكون مجاملةً بسيطة، لكنه أصر على تلقيني درساً لا أنساه إلى اليوم.

لا شك أنهم كانوا مثلنا يعتبرون هذا جائزا،ً لكن مرور السنين عليهم جعلتهم شيئا آخر... وهذا ما قصدت بقولي نحتاج إلى وقت، نحتاج إلى القضاء على الأسباب.

كان الله في عون (الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة) التي اقتنعت بأن الآليات الزجرية غير كافية للقضاء على الآفة الأزلية!! 

ولقد رأيناها تحاول أن تجد في المال ذاته وسيلة للقضاء على الآفة! لقد سنت جائزة مالية توزعها يوم تاسع دجنبر 2013 للذين يصمدون أمام الإغراء سمتها جائزة "النزاهة" في محاولةٍ للتقليل من عدد المارقين، لكني أرجع إلى القول بأن تطويق الفقر والأمية وجذور الفساد يبقى هو الطريق الأرشد لاجتثاث هذا الداء.









 
     

مزيد من المعلومات
الإسم

اللقب
اتركوا رسالتكم هنا
البريد الإلكتروني
الهاتف
يرجى إدخال الرموز كما تظهر في الصورة أدناه *