بين الفصحى والعامية بالمغرب | ||
اهتم المغاربة اهتماما كبيرا بالبحث حول أصول اللهجة العامية في اللغة العربية، ولابد لي هنا أن أحيل على البحث الذي خصصته لمجمع اللغة العربية في دورته السادسة والخمسين سنة 1990 والذي فصلت فيه الموضوع عندما قدمت أمام المجمع الموقر تأليفا مغربيا للشيخ أحمد الصبيحي يحمل عنوان : "إرجاع بعض الدارج بالمغرب إلى حظيرة أصله العربي"، ذلك التقديم الذي أرجو أن يضاف إلى أعمال مؤتمر المجمع لهذه الدورة الخامسة والستين
والآن وبعد مضي تسع سنوات على الموضوع نلاحظ أن المثقفين بالمغرب يتزايد اهتمامهم بالموضوع حيث تطالعنا الصحف من يوم لآخر بالبحث عن هذا التعبير أو ذاك، ومن الطريف في هذا الصدد أن نسجل أن الكتاب المغاربة يشاركون بكثرة في هذا الحوار محاولين بكل ما استطاعوا - أن يبحثوا للدارج عن حضور له في المعجمات العربية
وأذكر هنا للفائدة، وللفائدة فقط أن الأستاذ الشاعر محمد الحلوي أخذ على عاتقه الكتابة حول موضوع يحمل عنوان : (الفصيح في عاميتنا) الذي اعتدنا أن نقرأه على صحيفة العلم التي توزع على نطاق واسع داخل المغرب وخارجه
وللأستاذ الحلوي قبل هذا كتاب بعنوان : معجم (الفصحى في العامية المغربية) الذي تقوم على أمره شركة النشر والتوزيع للمدارس بالدار البيضاء والذي طبع مرارا
الأستاذ الحلوي يتتبع بعناية فائقة طائفة من العبارات والألفاظ الدارجة التي تجري على ألسنة المغاربة ويحاول إرجاعها - كما أشرنا - إلى أصولها العربية
والمهم في الموضوع أن تعليقاته لا تبقى بدون تعليق حيث نشهد عددا كبيرا من الأساتذة يتعقبون أقواله تارة بالتزكية والتأييد وتارة أخرى بالمعلومات التي يضيفونها إلى ما يقوله مستدلين محتجين بهذا الأثر أو ذاك
ولعل من المفيد أن نعرف أن هذا الركن لم يبق مقتصرا على العامية المغربية ولكنه تعداه إلى العامية المصرية والسورية ! لماذا ؟ لأن المسلسلات والأفلام الشرقية لما دخلت بيوت المغرب تسربت معها كذلك لهجات القاهرة ودمشق ... وأخذ عامتنا بدورهم يستعملون تلك الألفاظ وكأنها أمست من دارجتهم
وهكذا أمسى المغاربة اليوم يهتمون أيضا بدارج مصر ودارج الشام على نحو ما كان بالأمس من اهتمام أحمد تيمور باشا واهتمام إسكندر معلوف كذلك.
وكان من الأمثلة التي أثارها الحلوي في عناوينه : (الفصيح في عاميتنا) تسمية المغاربة للكلية بالكلوة بالواو، وقولهم كيني وميني بمعنى كيت وكيت، وكلمة الكسكاس التي تتصل بكلمة الكسكسو المغربية، وكلمة الكمشة المحرفة عن الكمزة العربية، والكرمة التي تعني عند المغاربة شجرة التين، والمكتوب الذي يعني عندنا الجيب ... ومنه قول المغاربة وهم يكنون عن كرم الرجل وإنفاقه : (مكتوبه مثقوب)
ومما شرحه الأستاذ الحلوي العبارة الجارية عند المغاربة "وقع هذا في النهار كهار" يعنون به في رائعة النهار ... حيث نجد السفير التونسي بالمغرب الأستاذ صالح البكاري يدخل مع الحلوي حلبة البحث ليؤكد أن (كهار) إنما هي تحريف جهار وليست شيئا آخر
ويعلق الأستاذ الحلوي على ما ورد من تفسير لكلمة السنداس التي وردت في رحلة ابن بطوطة ليقول أنها كلمة عامية تعني غير المرحاض على خلاف ما قلته وأنا أحقق الرحلة
وكان من الكلمات التي اهتم بها الحلوي : كلمة المكفط بمعنى المشمر. وكلمة (بش بش) التي تستأنس بها الهرة وعلاقة هذا اللفظ بكلمة الابساس الواردة في المثل العربي : الايناس قبل الابساس ! وكلمة المراق بمعنى الطفيلي ... وكلمة السمار بمعنى حذاء البهائم ... وكلمة المشاوشة لنوع من الرياضة القديمة التي تقوم على الغلبة بالأرجل، على نحو ما تقوم المصاقرة على التغلبة بالسيوف والعصي، وكلمة الخلان التي تصاحب كلمة البهلان، والكلمتان تؤديان معنى البلاهة المفرطة
واهتماما من الأستاذ بعناية العامة بأمر الألوان ساق عددا من الصفات التي لها أصول إما من الزهور أو الأشجار أو من الطبيعة، أو من الفواكه ... أو الطيور
ويتناول الحلوي بعض الكلمات التي لها دلالات خاصة في المغرب مثلا كلمة (الشفارة) التي تعني جمع شفار بمعنى اللص أو الحرامي كما ينعتونه بها بمصر
وكلمة الهيشر التي تطلق في المغرب على الهشيم ... وربما نعتت بها الشيء المشوه المزعج للنظر
ويتحدث عن الشابل وهو نوع خاص من السمك في المغرب يتكون في الأودية، وقد وجد له صلة باللفظ العربي شبل الغلام إذا نشأ في نعمة ورغد عيش، وهذا النوع من السمك يتميز بلحمه الناعم اللذيذ
ويتحدث عن كلمة الشارف بمعنى المتقدم في السن ويستطرد بذكر الفرق الشاسع بين شرفه (بتفخم الراء) وشرفه بتخفيف الراء ... الأولى بمعنى أكسبه الشرف، والثانية بمعنى جعله عجوزا
ومن الكلمات التي يذكرها مما يرجع لأصل عربي كلمة (كمى) بمعنى دخن أو تناول سيجارة باعتبار أن المدخن يكمي أي يستر ما يستقه من طابا ... إلى آخر القاموس الذي دشنت صفحاته هذه بإثارة موضوع العامي والفصيح
وقد كنت أترث في الثمانينات الحديث عن كلمة تستعمل بكثرة في المغرب تنعت بها السيدة المنحدرة من الرسول عليه الصلوات أو أية سيدة تتميز بخصال رفيعه نبيلة ... هذه الكلمة هي (لالة) التي قلت في أحد تآليفي اعتمادا على بعض المصادر التركية : قلت إنها من أصل تركي، لكن الأستاذ السفير صالح البكاري سالف الذكر نشر رسالة مفتوحة في جريدة العلم في عددها بتاريخ 23 يوليه 1997 يتساءل عن حقيقة الكلمة، واستطرد بإثارة عدد من المواضيع التي استحقت من القراء جملة من التدخلات والاستفسارات والإضافات المفيدة جدا للذين يهتمون بصلة العامية مع الفصحى
وهكذا قرأنا للزميل الدكتور عباس الصوري تعليقا مليئا بالفوائد التي كنا في حاجة إليها مثل صلة الكلمة بلغة الولوف السينغالية
كما قرأنا للسيد محمد كمال الخمليشي تعليقا رجع فيه إلى كتاب الشيخ الصبيحي سالف الذكر، وتبعه تعليق لأحدهم بتوقيع الأستاذ ع.ب
ثم كان تعليق السيد محمد صبار الذي جعل عنوان كلمته هكذا : (لالة أصلها لال الأمازيغية) ثم كان تدخل السيد عبد السلام شفيرة الذي أثار أيضا نقاطا في غاية الأهمية مؤكدا أن لغتنا العامية لغة البساطة والسهولة والوضوح، ففيها ما هو منحرف عن أصله الفصيح إما بالنقصان أو بالحذف والإضافة أو بالتغيير أو بالنحت أو بالدخيل أو بالولادة، وينقل عن ابن الأعرابي قوله : الأسماء كلها لعلة، خصت العرب ما خصت منها، من العلل ما نعلمه ومنها ما نجهله، فالإنسان سمي إنسانا لنسيانه، والبهيمة سميت بهيمة لأنها أبهمت عن العقل والتمييز
وقد ختم هذا الحوار السيد علي العرافي بالميل إلى أن لفظ (لالة) ربما كان دخيلا على اللغة العربية من أصل تركي
لقد تعمدت ذكر كل هذه الأسماء لأبرز أن الحوار على أشده في الأوساط المغربية عبر الصحافة حول رجوع الدارج إلى الفصحى وقد تبع هذا الحوار نقاش جاد وحاد حول كلمة المبرز وهل أن صوابها بكسر الباء أو فتحها ؟ ثم يتبع هذا تعليق حول كلمة : خرج إلى التقاعد أو أحيل على المعاش أو استراحة المحارب تعريبا للتعبير الفرنسي
وقد كان مما أثار الانتباه حقا ما ردده الأستاذ صالح البكاري في معلومة له جديدة بعنوان : (كيف : {أداة تشبيه فاتت اللغويين، ونظرا لأهمية هذه المعلومة وصلتها بأحد الأعضاء الراحلين في المجتمع، فإني أورد ملخصها هنا، قال الأستاذ البكاري : ومن اللهجة التونسية أداة التشبيه كيف ... يقابلها في اللهجة المغربية بحال، والناظر إلى هاتين الصيغتين يدرك ما بينهما من تقارب في دلالتهما على الكيفية والحالة ... وإذا قلت فلان كيف فلان فإن المعنى أنهما "زي بعض"، كما يقولون في مصر، وهكذا يتبين أن (كيف) الموسومة عند اللغويين بأنها أداة استفهام هي أيضا أداة تشبيه، ولكن لا أثر لوظيفتها هذه في كتب اللغة والمعاجم
ويقول الأستاذ البكاري أن هذا الرأي تعزز عنده بما وجده في شعر دريد بن الصمة حين يقول في وصف جري فرسه بصيغة المؤنث
لها حضر كيف الحريق، وعقبها كجسم الخسيف بعد معمعة الورد
وهو يشبه الفرس في عدوه بالنار كما قال العسكري في ديوان المعاني. ولا أدري - يقول البكاري - على أي أساس ورد لفظ الحريق بالرفع إذ إن أدوات التشبيه كلها تجر بالإضافة
ويضيف الأستاذ البكاري إلى كلمة كيف كلمة (تقول) التي تستعمل في بلاد المغرب على أنها أيضا أداة تشبيه وعلى نحول ما ورد في ديوان دريد
تقول هلال خراج من غمامة إذا جاء يجري في شليل وقونس
ومن اليسير استبدال كلمة تقول بكلمة كأنه. وفي دارجتنا المغربية تعبير: سليمان تقول أباه يونس : يعني كأنه أبوه ! وهكذا احتفظت كلمة (تقول) أيضا باستعمال وظيفي فات اللغويين
أريد أن أقول مرة أخرى بضرورة متابعة البحث حول هذه الكلمات وهذه الآراء وطرحها على البحث والدرس من أجل إثراء زادنا اللغوي من جهة وفسح المجال من جهة أخرى للهجات أن تأخذ نصيبها من الدرس والتنقيب
وأريد في الختام أن أشيد بالمنشور الذي أصدره الوزير الأول في الحكومة المغربية والذي يدعو فيه الوزراء إلى استعمال اللغة العربية تطبيقا لمقتضيات الدستور الذي ينص على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة.
| ||